strong>عُبادة كسر
  • «افتح يا سمسم» لتصير النفايات فناً


  • محمود الططري ليس فناناً مشهوراً، لا تحتل صوره أغلفة المجلات. إنه رجل بسيط من بعلبك، يحب المتاحف، ويعشق صناعة القطع الفنية، مستفيداً من نفايات الأخشاب ومواد أخرى. الرجل البالغ من العمر 56 عاماً صبور شغوف بالمطالعة... وهو الآن مشغول بصناعة متحفه الخاص

    «افتح يا سمسم» وحكايا وأساطير ألف ليلة وليلة سمعها الكبار والصغار، فسكنت خيالاتهم، لكن محمود الططري يحاول اليوم أن يجعلها واقعاً.
    متحف الططري الخاص هو بيت له في منطقة رأس العين في مدينة بعلبك، تُفتح أبوابه على وقع ذبذبات صوتية تهتف «افتح يا سمسم» مع إضاءة مخفية تنبعث بألوان مختلفة لليالي شهرزاد وشهريار... ثم تبدأ حركة الباب البطيئة.
    المتحف يُعرّف بصاحبه، من خلاله شخّص الططري حلم حياته، ومن خلاله نتعرف إلى شخصية رجل مثابر يعشق الساعات التي ينفرد خلالها بنفسه. لعبة الشطرنج هوايته المفضلة. خلال اللعب تزدحم الأفكار في رأسه لتتحول لاحقاً إلى أشياء ستنضم إلى مقتنياته.
    يقول الططري: «الفكرة ليست مرتبطة فقط بالباب، بل هي أكبر من ذلك، فمشروع الباب ما هو إلا غيض من فيض أفكاري»، وأفكاره «مجنونة». هو العاشق للفن الجميل والمتواضع، لا يخضع لثبات عند نقطة أو مرحلة، بل يطوّر ما يشتغله دائماً لتخرج القطعة من بين يديه بعد أن تخضع للتعديل و«لجنون أفكاره... هي دائماً تحت سيطرة التعديل والتحديثافتح يا سمسم» ليس مشروعاً جامداً بالنسبة إلى الططري، إنه كما الحياة قابل للتغيير. يمكن أن يصبح بعد سنوات بوابة يدخل منها السياح والزوّار ويخرج عبرها الططري بعدما يضم اسمه إلى أسماء معجبين آخرين من لبنان.
    ورث الططري منزله عن أهله، فاضطر إلى التأقلم مع هندسته، ويقول: «لو بنيت منزلاً لأخضعته لكل رغباتي، بل لفني، لكن عملية الهدم وإعادة البناء مكلفة».
    زار الططري وهو صغير قصر موسى المعماري، وفي فترة لاحقة قصد دولاً في أوروبا الشرقية واطّلع على متاحفها الخاصة، ما حفزه على تأسيس متحفه، فشيّد في منزله ما يعادل 3 طبقات (250 سم للطبقة الواحدة ارتفاعاً) لتكوّن المتحف فقط، ثم استخرج المياه من الأرض يدوياً، وصنع على سطح مبناه مروحة وقناطر تُضاء بواسطة الريح وشلالاً للمياه. وقد بُني المتحف على طريقة المتاهة الهندسية التي تجعل الفرد يحار في زواريبه وبين أدراجه. وثمة قوانين صارمة جعلها الططري تتحكم بالمتحف، فهو يسمح للحجر والخشب والكرتون فقط بالكلام والنطق. ارتدت الجدران حجارة مختلفة منها شحف والآخر صُنع في قوالب من الإسمنت الملون بأشكال مستديرة ومستطيلة ومربعة وبأحجام صغيرة.
    أما المساحة الفعلية للمتحف فهي متواضعة (أقل من 100 متر مربع للطبقة الواحدة) تستوعب عدداً من الزوار ويقول: «المتحف شبيه بفيلم سينمائي، ومسرح غير متحرك، يحكي قصصاً مترابطة، وسوف يبصر النور بعد سنتين تقريباً». مخرج العرض هو الططري بالطبع، وهو صاحب الرؤية السينوغرافية، وهو كاتب الدراما وقصة المتحف والأغراض المعروضة فيه.
    عند هذا الحد يتوقف الططري عن كشف «أسرار» متحفه ويسكت عن الكلام المُباح. يشي فقط بأنه سيطلق عليه اسم «متحف الفن الموجّه لتحسين صورة الإنسانالططري على أي حال لا يكثر من الكلام، يقول فقط ما يثري محدثه، عند السؤال عنه يكتشف المرء أنه كان في السابعة من العمر عندما حاول أن يصنع القطعة الفنية. وعندما كان صغيراً كان ينتظر سقوط الثلج الأبيض، وكان يقضي أكثر من 6 ساعات في ساحات حي غفرة ليبني مملكته الثلجية الشبيهة بالقلعة والحصن، ثم كان يصنع فخاً يحيطها به ليحميها من خطر «الغزاة».
    أنهى الططري الدراسة التكميلية وقد انكب على المطالعة، استهوته روايات نجيب محفوظ، وكُتب الفلسفة، والمجلدات العلمية التي تشرح عمل القوى الفيزيائية، إضافة إلى موسوعات الاكتشافات العلمية ... واستهوى أيضاً المتاحف «عندما كنت ميسوراً ، كنت أزور أوروبا مرتين كل عام، وقد سخّرت إمكاناتي المادية لتطوير معرفتي بالأشياء. جلبت كل ما هو جديد في عالم الاختراعات»... وفي السنوات الأخيرة وقع هو أيضاً ضحية للحال الاقتصادية المتردية في لبنان فجمع كتبه بأعداد كبيرة، وباع حتى الآن ما يقارب 3 مكتبات، لكنه ما زال يحفظ جيداً ما قرأه ويستفيد من هذه المعلومات في حياته وفي صناعاته.
    امتهن مهنة «الساعاتي» في محل ورثه عن أبيه، ولكل ساعة من حياته قصة تكللت بإنتاج معين. يعشق الأساطير التي تسمح للمرء بأن يحلم، وعندما يشعر بالتشنج وتقلب المزاج يصف لنفسه العلاج السحري: «يكفي أن أحلم لتخف تشنجاتي».
    عشق فن التخطيط ومعه انطلقت موهبته، ويذكر مباراة للأشغال اليدوية والمنحوتات شارك فيها في تونس قبل20 سنة. جرت مباراة في تونس، وكانت الجائزة المقررة آنذاك 10 آلاف دولار. قرر المشاركة وقام بإنجاز أول عمل من الخشب (ساعة خشبية تعمل على طريقة الأوزان)، لكنه تأخر عن موعد تسليمها 6 أيام، إلا أنه وجد ذلك دافعاً لمتابعة هذه المسيرةاعتمد في كل صناعاته واختراعاته على النفايات من الخشب والورق والكرتون. هذّبَ النفايات بطريقته، وكان نهجه في العمل «البسيط الذي يصنع العظيم». صنع طاولة بار صغيرة ورجلاً كرتونياً متحركاً (طوله 180 سم) ويعمل بالميكانيك والرصورات، ونملة عملاقة وباربي والموقدة ذات الاستخدامات المتعددة... وعشرات الأشياء الأخرى الغريبة.
    أطلق على الطابق العلوي من مبناه المتواضع «المعمل أو المشرحة». لقد شرّح عيني باربي (الشبكية، القرنية، القزحية) على أكثر من نموذج ليرى ما هو الأنسب. صنع كل أثاث منزله وديكوراته من نفايات الخشب، فغرفة الجلوس «عمرها أكثر من 25 سنة، مكوّنة من نفايات صناديق الزجاج الخشبية، طعمت سقفها بديكورات خشبية ورسمت لوحات من القطع الخشبية الصغيرة (سم واحد طول وعرض)، قطعتها بنفسي ودمجتها واشتغلت على الغامق والفاتح منها، وأنجزت بها اللوحات».
    الأعمال التي يقوم بها تتطلب صبراً وقدرة على التحمل، لقد تعلّم من مهنته كـ« ساعاتي» الصبر والالتزام بالوقت والدقة في العمل. فهو الآن بصدد دراسة لصنع فرن يعمل على الطاقة الشمسية ويقول: «إنها فكرة ابني الوحيد عمر، فهو يريد أن يخبز منقوشة صعتر على الطاقة الشمسية»، يتحدث ببساطة عن مشاريع كبيرة يعتقد الآخرون أنها تتطلب إمكانات مادية هائلة، لكنه ينظر إلى نفسه كأنه نقطة ماء وحبة مطر تواظب وتحدث ثقوباً في الصخرة من دون ملاحظة أحد، مع الإشارة إلى أن هذه النُقطة نقطة ماء ضعيفة، إلا أنها أقوى من القوة.




    قصص وذكريات

    عمر (12 سنة) هو الابن الوحيد لمحمود الططري، يساعده في أعماله، ويقضي معظم الوقت في لعب الشطرنج مع أبيه. يُلقب بـ«المخترع الصغير»، ويستطيع عمر أن يتحدث عن كل شاردة وواردة في المنزل وفي المتحف، ويتذكر كل محتويات المعمل أكـــــــثر من والده. ويضيء لوالده بأفكار جديدة (الفرن على الطاقة الشمسية)، ويقول عمر: «أبي مخترع، لكنني لا أحب أن أقلده في كل شيء، فأنا مولع بالتكنولوجيا والكمبيوتر».
    يصنع عمر مجسّمات من نفايات الألعاب والدمى (هيكل سيارة صغيرة للأطفال، ودمى بلاستيكية وقماش وكرتون وخشب...)، وقد صنع دمى تشبه رائد فضاء ومركبة فضائية وصحوناً طائرة ومحرك سيارة وغيرها، وطغت مجسمات الفضاء على أعماله لشدة ولعه بالفضاء. وُضعت أعماله في معرض خاص له في مدرسته «ثانوية الحكمة ـــــ بعلبك».
    يذكر أيضاً أن ينفّذ الططري أعماله بنفسه، وقد يستعين في بعض الأحيان بعامل محترف، ويقول: «إن صناعاتي تستطيع أن تكون من الحجر وتعيش إلى الأبد، لكنني أعتمد على ما هو سهل وغير مكلف».