إبراهيم الأمين
قبل الانتقال إلى سان كلو، كان هناك انطباع قويّ بأنّ ما يجري الآن من محادثات لا يعدو كونه رغبة من أطراف لبنانية وخارجية في ملء الفراغ. لكن لم يكن أحد من المعنيين مقتنعاً بأن هناك إمكاناً لحل قريب. بل على العكس، فإن الجميع يتصرفون على أساس أن المشكلة الفعلية موجودة في مكان آخر، وأن الانقسام القائم بين الافرقاء اللبنانيين، على أهميته، لا يمثل نقطة الارتكاز في المعارك القائمة.
وبحسب مصادر دبلوماسية واسعة الاطلاع، فإن البحث الذي أجرته فرنسا مع إيران لأجل التوصل الى تفاهمات تساعد على تغيير في الموقفين السعودي والسوري لم تصل الى نتيجة جدية، بل على العكس فإن انعدام التواصل الجدي بين دمشق والرياض متواصل، وثمة كلام كبير ينقل عن المسؤولين في هذا البلد أو ذلك. لكن المهم هنا أن إيران رفضت فكرة إلزامها أمر الحل مع سوريا ومع قوى بارزة في لبنان، وهو الأمر الذي عطّل مشروعاً سعودياً ـــــ فرنسياً لمزيد من التهميش لسوريا. ويبدو أن طهران أجابت السعودية بحزم، بأنه يصعب إنتاج حلّ حقيقي من دون سوريا. وهو الأمر الذي سمعه الفرنسيون أيضاً في طهران وأخذوه بجدية أكبر من السعودية التي تشير إلى أمور تخصّ ملفات أخرى غير لبنان، مثل فلسطين والعراق، وهو ما يمنع التوصل إلى تفاهمات جدية.
وإذا كانت الاتصالات غير مقطوعة بين الجميع، فإن الحوار ليس من النوع الذي يقود إلى نتيجة سريعة، وهو ما جعل جولات الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى والموفد الفرنسي الخاص جان كلود كوسران ما بين سوريا والسعودية لا تصل إلى نتيجة جديدة.
وإذا كان هناك من يعتقد أن هناك تنافساً جدياً يقوم الآن بين مبادرتي موسى وكوسران، فإن المشكلة تكمن في المواقف التي تقف خلف كل من هاتين المبادرتين، وليس أمراً عادياً أن تقف السعودية في وجه المسعى الفرنسي وأن توفر الدعم الإضافي لموسى، حتى وصل الامر بقوى من فريق 14 آذار إلى إبلاغ فرنسا أنها تشكر لباريس جهودها، لكنها تفضّل أن تتمّ الأمور من خلال السعودية، في مقابل حماسة مستجدة عند قوى في المعارضة لتفعيل المشاركة الفرنسية، برغم كل «التخبيص» الذي يقوم به السفير في بيروت برنار إيمييه وبقايا الرئيس السابق جاك شيراك في الإدارة الفرنسية. حتى إن طهران وفّرت من الدعم للجانب الفرنسي ما لم تحصل عليه الأخيرة من السعودية نفسها. وهو أمر له تأثيراته اللاحقة، وخصوصاً عندما ينقل عن أقطاب في فريق 14 آذار انزعاجهم من «تخاذل قصر الإليزيه أمام حزب الله في لبنان» في إشارة إلى البيان الاعتذاري ـــــ التوضيحي الذي صدر عن الرئاسة الفرنسية في ضوء موقف سابق يتّهم حزب الله بأنه تنظيم إرهابي.
وفي بيروت، لا تبدو الامور بأحسن حال. ففي أوساط المعارضة نقاش حول أبعاد جديدة للمواجهة، تقوم أساساً على منع خطف 14 آذار للرئاسة الأولى، لكن في جانب المعارضة ثمة قدر أكبر من التروي والأعصاب الباردة مقابل درجة أعلى من التوتر لدى الفريق الآخر. حتى إن اللقاءات الجانبية التي عقدت في سان كلو، دلّت على جانب من هذا التوتر ولا سيما القسم الشخصي منه، إلى درجة أن أحد أعضاء وفد 14 آذار قال لعضو من فريق المعارضة: جيّد أننا دُعينا إلى هذا اللقاء، كانت فرصة لنخرج من المنازل، هل يُعقل أن تستمرّ أمورنا على هذا النحو؟ لا بدّ من تسوية.. لا بدّ من تسوية!.
أمّا في السجن الكبير، حيث يمضي الرئيس فؤاد السنيورة أوقاتاً صعبة برفقة عدد من ثقيلي الدم من المستشارين و«وزراء الصدفة»، فإن المناخ لا يقلّ قلقاً وتوتراً، علماً بأن السنيورة نفسه يحاول الظهور بمظهر الهادئ القابض على زمام المبادرة. وهو يقول صراحة إن المشكلة تنطلق من أن فريق المعارضة لا يريد التوصل إلى حلول واقعية: لماذا يريدون الآن حكومة وحدة وطنية وهم يعرفون أنها سوف تعيش لشهرين على أبعد تقدير؟، ثم يسارع إلى الإجابة بنفسه: على الأرجح أنهم لا يريدون حصول انتخابات رئاسية، وهذا يعني أنهم إذا فازوا بحكومة لهم فيها الثلث المعطّل ومنعوا إجراء الانتخابات الرئاسية، فسوف يتحكّمون بمصير الحكومة وبيدهم المجلس النيابي، وعندها لا يكون عندنا رئاسة جمهورية».
وبرأي السنيورة فإن المشكلة واضحة في كونها محصورة بالملف الرئاسي، فلماذا التعب، لنذهب مباشرة إلى إجراء انتخابات رئاسية بالتوافق، الأمر الذي يتيح لنا بعدها التوصل إلى تأليف حكومة وحدة وطنية تتولّى إدارة البلاد. وإذا كان هؤلاء لا يريدون دوري، فأنا مستعدّ منذ الآن للتخلّي، وأصلاً سوف أرفض العودة إلى هذا المنصب. لكن لماذا يريدون وضع العرَبة قبل الحصان»؟ المطلوب الآن إجراء انتخابات رئاسية. والخلاف يقوم هنا.
وعندما يشرع السنيورة في مقاربة الملفّ الإقليمي، يتحدّث أمام زوّاره عن الضغوط القائمة من جانب الأميركيين وعن عدم حصول تغيير كبير في فرنسا، وعن استمرار الموقف لدى قوى الاعتدال في العالم العربي وتماسكه. ويضيف أمام زوّار آخرين: كلّنا نعرف أن سوريا مرتاحة الآن، وأنها أقوى ممّا كانت عليه سابقاً. لكن لماذا ترفض التسويات؟ لقد عرضت عليها السعودية ومصر تسويات بشأن ملفّ المحكمة، لكن في دمشق من يرفض البحث في الأمر من أصله. لماذا هذا التشدّد وإلى أين يمكن أن يصل بالبلاد؟ لكن السنيورة لا يخفي هنا اعتراضه على تصريحات بعض قادة فريق الأكثرية، وتحديداً تصريحات ومواقف كل من وليد جنبلاط وسمير جعجع. حتى إنه يبدي ملاحظات على سلوك وسائل إعلام الفريق الأكثري في طريقة التعبئة والتعبير عن الموقف. لكنه يلفت إلى أن الآخرين لا يريدون السير نحو حلّ.
أمّا المفاجأة التي يمكن الحصول عليها من السرايا الكبيرة، فهي في أن الرئيس السنيورة ومعه فريقه يتحدثون بسخرية عن علاقتهم بالولايات المتحدة: أين هو المشروع الأميركي الذي نعمل لأجله؟ هذه نكتة. نحن نلزم الولايات المتحدة بمواقفنا، أقول وأنا مسؤول عن كلامي، واشنطن تدعم قيام حكومة وحدة وطنية ونحن لا نرى موجباً لها الآن، ونعتقد أنها تصبح تحصيل حاصل بعد الانتخابات الرئاسية.
غير أن الكلام المفيد الآخر على النقطة الأصلية المتعلقة بالموقف من العدوان الإسرائيلي ومن سلاح المقاومة، حيث السنيورة يترك الكلام لوزير خارجيته الحقيقي السفير محمد شطح الذي يقول مباشرة: هناك في لبنان من يحمل السلاح خلافاً لرأي غالبية اللبنانيين، وهو يعمل ضمن محور لا توافق عليه غالبية اللبنانيين، وبالتالي فهذه هي نقطة الخلاف الجوهرية!..