غسان سعود
فتفت سهّل شروط نيل العلم والخبر وأكثر من نصف الجمعيات ينشط في الشمال

بعد أحداث 11 أيلول 2001 في نيويورك وواشنطن، أعلنت الولايات المتحدة، من ضمن ما أعلنت من حروب، الحرب على الجمعيات الخيرية في العالم تحت شعار «تجفيف منابع الإرهاب»، وبحجة أن كثيراً من هذه الجمعيات لم يكن إلّا غطاءً لحركة انتقال الأموال بين فروع تنظيم «القاعدة» في العالم. والمفارقة ـــــ من دون أن نكون موافقين على هذه السياسة الأميركية ـــــ أن لبنان، وخصوصاً في العامين الماضيين نحا في اتجاه معاكس، فأقدمت حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، التي لا تنفك الإدارة الأميركية تنوّه بدعمها، على الترخيص لمئات الجمعيات من دون التدقيق في أهدافها
كانت أحداث مخيم نهر البارد في 20 أيار الماضي، وما أحاط بها من ملابسات، محوراً لمزيد من الانقسام السياسي، ومناسبة لتبادل القصف الكلامي بين من جزم بأن تمويل «فتح الاسلام»، وغيرها من التنظيمات والحركات السلفية، حريري بامتياز لتغذية «جيش السنّة»، ومن أكد أن التمويل مخابراتي سوري لضرب الاستقرار في لبنان.
لكن كلاماً، ربما كان أكثر إقناعاً، بدأ تداوله أخيراً، حتى في أوساط مسيحية تُعنى بإعداد دراسات للصرح البطريركي، عن تمكّن المجموعات السلفيّة من توسيع نفوذها عبر عدد كبير من الجمعيات «الثقافية» و«الاجتماعية» و«الدينية» و«السياسية»، مستفيدة من انفتاح الحكومة الحاليّة على الترخيص للجمعيات، بذريعة تشجيع «حراك المجتمع المدني».
فقد أبدت وزارة الداخلية والبلديات، خلال السنتين الماضيتين، «سخاءً» غير معهود في منح «العلم والخبر» للجمعيات، وخصوصاً القريبة من الموالاة والتي تتميز بطابعها الاسلامي، وذلك بعدما أفلح وزير الشباب والرياضة أحمد فتفت، أثناء توليه مهمات الداخلية بالوكالة لنحو 10 أشهر، في «تحرير» وزارة الداخلية من تبعات تدقيق الوزارات المعنية في عمل هذه الجمعيات قبل إعطائها العلم والخبر، وجعل القرار في يده وحده. وقد سجّل وزير الرياضة رقماً قياسياً في توزيع «العلم والخبر» على الجمعيات، فارتفع العدد من 159 جمعية رُخّص لها عام 2000 إلى 536 جمعية عام 2006، ليتخطى بذلك عدد الجمعيات في لبنان الـ20 ألفاً، بحسب دراسات أعدتها «مجموعة الأبحاث والتدريب للعمل التنموي».
وفي هذا السياق، تمكّن فتفت من «رفع اسم لبنان عالياً» ليحتل المرتبة الرابعة في العالم من حيث عدد الجمعيات نسبة لعدد المواطنين، وهو ما يعلّق عليه أحد المتابعين الذي توقع، متهكّماً، أن تصبح «لكل مواطن لبناني جمعية قريباً إذا استمرت استراتيجية المحسوبيات بالتحكّم في هذا الملف»!
فقد ارتفع عدد الجمعيات المصنفة دينية من واحدة عام 2000 إلى 14 عام 2006. وقفزت الجمعيات السياسية من 2 عام 2002 إلى 26 عام 2006. وبدورها، شهدت الجمعيات الثقافية والخيرية الاجتماعية تضخماً هائلاً فارتفع عددها من 64 جمعية عام 2004 إلى 275 عام 2006. ويرجح الباحثون في «مجموعة الأبحاث والتدريب» التي أحصت الجمعيات المشهرة في السنوات الماضية، تضاعف هذا التضخم عام 2007 بحسب ما تظهره بيانات الجريدة الرسميّة.
ويعود السبب الرئيس في وضع لبنان على طريق «جمعية لكل مواطن» إلى إنجاز الوزير أحمد فتفت الأبرز في وزارة الداخلية والبلديات. حين أصدر في 19 آب 2006 قراراً يؤكد عدم حاجة تأليف الجمعية إلى الرخصة، والاكتفاء بإعلام الحكومة بها بعد تأسيسها، الأمر الذي فتح الباب واسعاً امام مجموعات مختلفة لتحوز العلم والخبر الذي يعطيها صفة قانونيّة يشرع عملها في مختلف المناطق اللبنانية، ويؤمن وصول التبرعات إلى أهلها عبر حسابات مصرفية تتمتع بالسريّة. والخوف بالنسبة إلى كثيرين يتعلق بهويّة بعض الجمعيات، وأهدافها، وارتباطات مسؤوليها.
ومن المعلوم أن نيل جمعية ما العلم والخبر يجيز لها فتح حسابات مصرفية وللقيمين عليها إجراء المعاملات باسم الجمعية أمام كتّاب العدل. لذلك يحذر مراقبون لتطور الحركات الأصولية في لبنان من استغلال هذين الحقين لحصول هذه المجموعات على تمويل من الخارج وصرفه على مشاريع تخدم مخططاتها. ويجمع ناشطون في الحقل الاجتماعي على هشاشة الرقابة الحكومية على نشاطات هذه الجمعيات. واقتصارها، بحسب الباحث عمر طرابلسي، على الطلب من الجمعيات تقديم أربع أوراق لا يستغرق إعدادها أكثر من 15 دقيقة، مؤكداً أن عدد الجمعيات التي تقدم تقارير مالية واضحة وشفافة «يعدّ على الأصابع».
واللافت أن أكثر من نصف الجمعيات التي رخّصت لها الحكومة الحالية تنشط في الشمال، وخصوصاً في المناطق التي «صادف» أن شهدت توسعاً لنفوذ السلفيين خلال السنتين الماضيتين، حيث تؤمّن هذه الجمعيات شبكة خدمية واسعة، ومظلة لعدد كبير من النشاطات. ففي منطقة أبي سمرا في طرابلس، مثلاً، حيث ينشط السلفيون بقوة، منحت حكومة الرئيس فؤاد السنيورة العلم والخبر لأكثر من عشر جمعيات.
وتلفت أوساط في الكنيسة الى رفض فتفت التراجع عن تشريع عمل حزب التحرير المحظور في عدد كبير من الدول العربية والاسلامية، مشيرة الى أن أهدافه، بحسب ما يورده موقعه الالكتروني، «اعادة المسلمين إلى العيش عيشاً إسلامياً في دار اسلام، وفي مجتمع إسلامي، بحيث تكون جميع شؤون الحياة فيه مسيّرة وفق الأحكام الشرعيّة، وتكون وجهة النظر فيه هي الحلال والحرام في ظل دولة اسلاميّة، التي هي دولة الخلافة، والتي ينصّب المسلمون فيها خليفة يبايعونه على السمع والطاعة على الحكم بكتاب الله وسُنّة رسوله، وعلى أن يحمل الاسلام رسالة إلى العالم بالدعوة والجهاد».
كما تلفت الأوساط نفسها الى توقيع فتفت ووزير الداخلية الأصيل حسن السبع، رغم الاعتراض الكبير الذي رافق تشريع عمل حزب التحرير، العلم والخبر لجمعيات طرابلسية عدة يتصدر اهتماماتها نشر الدعوة الاسلامية وبناء المساجد، فيما «يعلم الجميع أنه ما من حي في مدينة المسلمين يخلو من جامعين على الأقل، كما بات لكل بناية تقريباً معهدها الاسلامي».
ويشار في هذا السياق الى عدد كبير من الجمعيات التي تثير اهتمام المتابعين. مثل جمعية «سبيل الرشاد الاجتماعية الاسلامية» التي حازت العلم والخبر من وزارة الداخلية والبلديات في 18 كانون الأول 2006، بعد أقل من 48 ساعة على تقديمها الطلب، وهي تهدف إلى «تنمية المجتمع دينياً وعلمياً واجتماعياً وصحياً وأخلاقياً. وبناء دور الأيتام والمساجد والمراكز الصحية والقاعات الاجتماعية والمدارس الفنيّة والاكاديمية والدينية ومراكز تحفيظ القرآن والمستشفيات وحفر الآبار وكفالة الأيتام وشق الطرقات، وتأمين المساعدات المالية والعينية لطلاب العلم والفقراء والأيتام والمحتاجين والعجزة، ونشر الكتب الدينية والعلمية. إضافة إلى العمل على تمتين أواصر المحبة والأخوة وصلة الرحم واصلاح ذات البين بين منتسبي الجمعية وأنسبائهم وذويهم وجميع المسلمين واللبنانيين»، فيما يغيب مؤسسوها، وهم سبعة من آل الدريعي، عن السمع، ويؤكد موظفون في دوائر وزارة الداخلية أن شروط منح العلم والخبر للجمعية لم تعنَ بطريقة تمويلها لتنفيذ كل هذه النشاطات التي تتطلب ميزانية ضخمة.
كما أعطى السبع، بعد قرابة شهر على اندلاع المواجهات في نهر البارد، العلم والخبر لجمعية سياسية باسم «حركة الحرية والتنمية»، ومركزها في أبي سمراء، وتهدف إلى التحرك «لإرساء تأصيل إسلامي لمختلف جوانب النشاط الاسلامي في لبنان»، و«التصدي لمحاولات تشويه الدين الحنيف»، و«العمل على تدعيم المشاركة الاسلامية في الحياة العامة، وخصوصاً السياسية والتنموية والتربوية. واحياء المفاهيم والرؤى الاسلامية للنهوض الفكري والتنموي، عبر الاستعانة بالخبرات والكفاءات الدينية والعلمية في مختلف المجالات». وبدورها تسعى «جمعية مكارم الأخلاق الاسلامية في الميناء»، التي شرّع السبع عملها بعد أقل من شهر على تقديمها طلب العلم والخبر، إلى «بث روح التآلف والتحابب ونشر مكارم الأخلاق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونشر الفضيلة وفقاً لشعائر الإسلام والقيم الدينية ومحاسن الآداب، والقيام بالنشاطات الثقافية والتربوية الهادفة لتبليغ الدعوة الاسلامية...».
علماً بأن جمعيات كثيرة، بحسب عمر طرابلسي، لا تعلن عن حقيقة أهدافها، وتدّعي العمل الاجتماعي حتى في طلب العلم والخبر لتخفي نشاطات أخرى. واللافت في هذا السياق أن جمعية «تجمع سنابل الخير التربوي» المعروفة بتوجهها السلفي لا تهدف، بحسب وزارة الداخلية والبلديات، إلى أكثر من «إعانة الفقراء والمحتاجين والعمل على رفع مستواهم الاجتماعي والثقافي عبر عقد ندوات ومحاضرات واقامة دورات معنيّة لمن هم بحاجة. والسعي مع الجهات المختصة إلى إنشاء مركز تربوي لرفع مستوى التعليم الخاص»، في وقت، يؤكد فيه عكاريون يسكنون قرب مركز هذه الجمعية في بلدة تلعباس أن عدد المحاضرات خلال العام الماضي لم يتعدّ الاثنتين، فيما يتوافد اليها شيوخ وشبان يومياً لعقد اجتماعات مغلقة تستمر ساعات طويلة.
ويؤكد طرابلسي أن قرار فتفت فتح الباب واسعاً أمام مختلف المجموعات للنفاذ إلى الحياة الدينية والاجتماعية والسياسية اللبنانية من دون الحد الأدنى من التدقيق في هويتها. ويتخوف من أن يكون بعض الجمعيات المصرح عنها «مجرد أقنعة لتبييض الأموال أو تمريرها لبعض المجموعات»، غامزاً من قناة تزامن تزايد الجمعيات مع استنهاض الحالة السلفية في لبنان.
ويتحدث أحد المحامين المتابعين عن كثب لتطور الجمعيات في لبنان عن مزاجية حكومية هائلة في اعطاء العلم والخبر، مشيراً إلى حصول بعض الجمعيات مثل «القوات اللبنانية»، «جمعية إنماء الإنسان والمجتمع» العرسالية، «جمعية المستقبل للدفاع المدني»، و«مؤسسة مي شدياق» على العلم والخبر خلال أقل من أسبوع، فيما يستغرق الترخيص لجمعيات أخرى شهوراً عدة.