صريفا ــ آمال خليل
بالأمس قبل عام، وصلت أم عباس دكروب إلى مركز استقبال النازحين في بلدية صيدا وهي تجرّ زوجها المريض. كانا على «آخر روح»، بالكاد طلبت من المسؤول أن يدلّها أين نزح أقرباؤها من أهالي صريفا. في المدرسة، انضمّت أم عباس إلى الغرفة التي تسكنها بناتها وأقرباء كانوا في انتظارها لتخبرهم كيف تركت صريفا وشبابها. تقف أم علي وأم فادي وأم أحمد اللواتي خرجن قبلها، في انتظار أمل منها أو أي شيء من صريفا لا يشبه لون ركامها. تضع أم عباس يداً على فمها لتحبس الحقيقة وأخرى على قلبها لتحبس الآهات؛ فأم عباس تعرف الكثير من الحقائق الموجعة. ما قالته لهم هو أنها غادرت البلدة صباحاً مع الأهالي؛ لكن الحقيقة أنها صباحاً سألت عن وحيدها عباس الذي كان يحرس البلدة مع الشباب فسمعت من أحدهم أنه شوهد مع ابن خاله في هذا البيت الذي صار ركاماً، فركضت باتجاهه تنادي ابنها وتناجي الشباب لرفع الأنقاض. لم يكن ممكناً عمل شيء، سوى أنها قرأت الصلاة لروحه وراحت تفتش عن سيارة تقلّها وزوجها. كانت تعرف أن أمهات كثيرات أصبحن مثلها ثكالى باستشهاد أبنائهن، وأن 280 منزلاً، كمنزلها، أصبحت ركاماً؛ فكيف تقول لأم فادي إن ولديها استشهدا فيما لا تزال تعتب عليهما لأنهما تأخرا في الاتصال بها؟
حتى يوم العودة، كان علم أم عباس بالشيء أمراً كبيراً كفجيعتها بخسارة وحيدها. أما الآن وبعد مرور عام على مجزرة صريفا الثانية، فصار العلم مشتركاً بين 42 أم شهيد تجمّعن في المهرجان الذي أقامته البلدة لإحياء ذكرى شهدائها السنوية الأولى. حضرت صور وسيم ومحمود وبلال وعلي ونديم في أحضان أمهاتهم؛ وحده الشهيد فادي كمال الدين حضر بين الناس إنما على شكل طفل لم يتجاوز الثمانية أشهر يجلس في أحضان زينب، زوجته لاثني عشر يوماً وأمه لطول العمر. فالطفل فادي حظي باحتفالية خاصة، بالإضافة إلى الاحتفالية اليومية لكل من يراه في صريفا لأنه فادي ابن الشهيد فادي. إحدى الرسامات التشكيليات خصّته بلوحة تجمعه مع أبيه لأنه أصغر طفل من أبناء شهداء الوعد الصادق.
الاحتفال بالشهداء كان له طعم آخر في صريفا التي حضن ترابها إلى أبنائها، الشهيد وسيم شريف (من بلدة اللبوة) الذي سقط فيها مع الشهداء المقاومين محمد الموسوي (النبي شيت) وحسن ناصر (الخرايب) وسمير ضيا (بافليه) وعلي دلباني (صور). وهي أيضاً احتلت المرتبة الأولى في الترتيب الزمني للمجازر إبّان العدوان، إذ افتتح اللائحة الشهيد عقيل مرعي (34 عاماً) وزوجته أحلام جابر (28 عاماً) وابنه هادي (9 سنوات) وابنته فاطمة (4 سنوات) عند الرابعة من فجر 13 تموز عندما أغارت الطائرات على منزله الذي أصرّ أهله على إعادة بنائه في الذكرى الأولى لاستشهاده. ويبدو أنه لم يكن استهدافاً مدنياً بامتياز لعائلة عقيل الناشط اجتماعياً في البرازيل منذ عام 1990. فلربما اسرائيل لم تصفّ حسابها بعد مع أبيه «أبو سمير» بعد اعتقاله في عام 1982 في سجن العفولة في فلسطين ثم استهداف منزله في صريفا عام 1996 وفي الغندورية في العدوان الأخير. فأبو سمير قاتل في صفوف المقاومة الفلسطينية وساهم في دحر الاحتلال عن صريفا في عام 1986، ولم تنته عائلة الشهيد عقيل بعد من استرجاع حقه من اسرائيل في الوطن والمهجر. فبعد أن وعد ابن أخيه حسن عبد الأمير مرعي (17 عاماً) بقتل الإسرائيليين كما قتلوه، برّ بوعده وساهم في دحرهم بعد إنزال الغندورية. أما في البرازيل فبضغط من الجالية اللبنانية، قدّم السفير الإسرائيلي اعتذاراً رسمياً إلى الحكومة البرازيلية عن قتل العائلة التي تحمل جنسيتها. ولا تزال الدعوى القضائية التى رفعها ذوو عقيل على اسرائيل جارية أمام القضاء البرازيلي.
وحول مهرجان الشهداء تحلّق جميع أهل البلدة الذين ينتمون، مثل الشهداء، إلى عدة أحزاب وكانت كلمات لكل من المسؤول السياسي لحزب الله في الجنوب حسن عز الدين، وحركة أمل الذي مثّلها عضو المكتب السياسي الشيخ حسن المصري، والحزب الشيوعي اللبناني الذي تحدّث باسمه رئيس المجلس الوطني موريس نهرا، الذين شددوا على الوحدة الوطنية والإصرار على نهج المقاومة المنتصرة.
وفي قلب حي موسكو العائد من الموت والذي يشهد حركة إعادة إعمار مكثفة، ارتفع نصب شهداء البلدة الذي شيّدته منظمة الحزب الشيوعي فيها.