جوزف سماحة
في إسرائيل نقاش يتناول الحرب وأسبابها ومجراها ونتائجها وتداعياتها. وفي لبنان، أيضاً، نقاش. نضع النقاش الإسرائيلي جانباً هذه المرة. نكتفي، مؤقتاً، بجانب من النقاش اللبناني. ثمة مسؤولون وقادة سياسيون يضمرون أو يعلنون أن أسباب الحرب بسيطة وواضحة: عملية أسر الجنديين. أما مجريات الحرب فكناية عن «همجية مارسها العدو» (كلما استخدمت أفعال التفضيل في وصف الهمجية كانت الريبة واجبة). أما النتائج فكارثية، وأما التداعيات فتحقيق المطلب المعروف بنزع سلاح المقاومة.
نادراً ما نقرأ لسياسي لبناني طرحاً يرقى إلى مستوى الحدث. نادراً ما نلحظ أن هناك اهتماماً بشرح السياسة الأميركية أو الفرنسية، أو أن هناك دروساً في المواجهات، أو أن هناك تقديراً للتداعيات على مستوى لبنان والمنطقة والعالم، أو أن هناك تنبّهاً إلى موقع «الحدث» من استراتيجيات، ونظريات، وتحالفات، وأطروحات تميّز عالمنا المعاصر وتخضّه خضّاً.
بعض السياسيين اللبنانيين فنّان في جعل الحرب على قياسه: اصطدام «مروّع» لا يستأهل تفكيراً، ولا يستدعي أكثر من استئناف التصريحات من حيث توقفت، ومن الخلط المتمادي بين الرغبات والوقائع. يكاد المرء يقول إن هذه الحرب تستحقّ طبقة سياسية من نوع آخر. لكن ما العمل ما دام هذا هو المتوافر؟
من أجل فهم هذه الحرب، أو، على الأقل، محاولة فهمها، ربما كان علينا البدء بتسجيل بديهية. يدور صراع قاس جداً في المنطقة. صراع ضار. صراع يبدو أحياناً أنه يذهب إلى الحدود القصوى. ثمة تحالفات واصطفافات ذات معنى. لا تخفي المقاومة علاقتها بـ«حماس» وسوريا وإيران، وتقدم منطقاً في شرح هذه العلاقة. تجاهر قوى أخرى لبنانية بالصداقة لفرنسا أو الولايات المتحدة أو لكلتيهما، وعندما لا تفعل ذلك فإنها تطلق اسماً رمزياً على ولاءاتها الخارجية هو «المجتمع الدولي» أو «الشرعية الدولية».
هذه بديهيات. لنقل إن هذه هي الصورة الفوتوغرافية الجامدة. لنحاول تحريكها قليلاً. لنجرب أن نعرف في لوحة الصراع هذه من هو الطرف المهاجم، ومن هو الطرف المدافع.
يعلن جورج بوش وطوني بلير وإيهود أولمرت أن الحضارة تتعرّض لعدوان، وأن الأصولية في مرحلة الانقضاض، وأن «الإسلام الفاشي» يقتحم نمط الحياة الغربية ويريد تدميره. وهكذا فإن الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل لا تفعل سوى صدّ العدو غير التقليدي، والحروب الاستباقية هي إحدى هذه الوسائل. وهكذا تصبح الفلوجة وغزة وعيتا الشعب حلقات في سلسلة دفاعية واحدة بدأت بتفجير البرجين وما زالت تتوالى فصولاً، وستبقى.
تنهض رواية أخرى في وجه هذه الترسيمة. تقول إن الولايات المتحدة انتقلت بعد 11 أيلول وحرب أفغانستان إلى الهجوم الشامل فوق مسرح العمليات الجديد: الشرق الأوسط الكبير. بريطانيا شريكة في كل مكان. فرنسا تختار «حسب اللائحة». إسرائيل صاحبة مصلحة استراتيجية، وهي تحاول أن تقوم بما عليها في فلسطين ولبنان. إن هذا المحور هو الذي افتتح الحرب على المنطقة كلها عبر احتلال العراق، والسعي إلى حماية التوسع الصهيوني في فلسطين، والضغط لنقل لبنان من ضفة إلى ضفة، وتصعيد المواجهة مع إيران، وعزل سوريا.
إن الرواية الثانية أقرب إلى الصحة، وإن كانت تتضمن قراءات متباينة بعض الشيء، وإن كانت غير مقنعة تماماً في مدى استعداد أطراف فيها لتحمل العبء المرمي عليه.
المدخل إلى أي نقاش يتناول ما عاشه لبنان، عليه أن يبدأ من هذا التشخيص الإجمالي، من هذا التحديد العام الذي يرغم كل شخص على اختيار موقعه على هذا الجانب أو ذاك، علماً بأن اختيار الموقع لا يلغي إطلاقاً حق ممارسة النقد والتمايز، لا بل التبرؤ من خطوات وخطابات.
في الأصل كان هذا الانقسام. ولا بد من حسم قضية الانتماء إلى أي من المعسكرين الواسعين. بكلام أدقّ، لا بد من التأسيس على تعريف دينامية هذا الصراع من أجل فهم دقيق لما حصل ويحصل.
تهرباً من هذا التعريف برزت «نظريات» عديدة أبرزها اثنتان:
تقول الأولى إن المنطقة تتعرض لهجوم «فارسي» هو الخطر الأكبر عليها، ولا بد من استنفار عروبي مذهبي في وجهه. ومن مظاهر هذا الهجوم التطورات في العراق وفلسطين ولبنان. لا مشكلة مع الولايات المتحدة أو إسرائيل إذاً. مشكلة العرب هي مع إيران. الأطروحة متهافتة لأن إيران التي استفادت مما حل في العراق إنما استفادت من التواطؤ العربي مع الغزو. وهي متهافتة لأن الوضع في فلسطين سابق للثورة الإسلامية. المهم أن مروّجي هذه النظرية يخفون التحاقهم بالسياسة الغربية وراء استنفار العصبية ضد إيران، ويتجاهلون الإفلاس الذي أصاب سياساتهم منذ عقود في ما يخص الدفاع عن قضايا المنطقة، ويعتقدون أن في إمكانهم محاسبة طهران على سلوكها في العراق عن طريق إقناع المقاومة هناك بأن الاحتلال ليس عدوّها الأول.
أما النظرية الثانية، وهي لبنانية، فهي إذ تقرّ بوجود الصراع العام في المنطقة، فإنها تروّج لوهم «الحياد». تغفل تماماً عن جذرية ما يحصل وتمرّر سمّ دعوتها إلى الالتحاق بواشنطن في دسم الحرص على حماية لبنان من آثار العواصف في الإقليم.
كان يفترض بالمواطن اللبناني أن يتمنى من بعض سياسييه الارتقاء بالسجال. وما كان تمنياً، بات اليوم طلباً ملحّاً بعد العدوان الإسرائيلي الذي يتوّج عامين شديدي الاضطراب. أسر الجنديين الإسرائيليين أقلّ من تفصيل صغير في اللوحة الواسعة.

17 آب 2006