strong> عبد الحليم فضل اللّه
  • النتائــج الاقتصاديــة للحــرب: نقــاش فــي الأرقــام... وفــي السيــاســة (3/3)

  • ما إن اندلعت حرب تمّوز، حتّى قفز البعد الاقتصادي إلى الواجهة في محاولة لا تخلو من استغلال سياسي. تحاول هذه الدراسة التي أعدّها الدكتور عبد الحليم فضل اللّه إعادة تصويب النقاش الاقتصادي لنتائج حرب تمّوز. بعد الحلقتين الأولى والثانية اللتين نشرتا تباعاً في عددي السبت والاثنين، ننشر هنا الحلقة الثالثة والأخيرة من هذه الدراسة، والتي تتناول موضوعتيْ إعادة الإعمار والتعويضات

    تسير عمليات إعادة الإعمار كما هو واضح بأكثر من سرعة، وهذا يرتبط إلى حد كبير بالتباين بين أداء الشركاء الثلاثة المساهمين في إتمام العملية: الحكومة، المانحين، والمؤسسات الأهلية، وتحديداً مؤسسات المقاومة. ويرد هذا التباين إلى العوامل الآتية: قوة التصميم السياسي لإنجاز المهمة في أسرع وقت، التطابق ما بين أهداف عملية إعادة الإعمار والأولويات العامة التي يرسمها كل شريك لنفسه، ومدى الترابط بين إتمام عملية إعادة الإعمار بنجاح وتلبية المصالح الاجتماعية التي يمثلها كل من هؤلاء الفاعلين.
    الوتيرة الأسرع تميّزت بها مؤسسات المقاومة التي كان لديها بالطبع الحافز الأقوى لإزالة آثار العدوان في أسرع وقت، وقد واجهت التحدي حتى الآن بنجاح بيّن، حيث استكملت مؤسسة «جهاد البناء» خلال فترة وجيزة بعد الحرب «برنامج الإيواء» الذي ساعد أكثر من 15 ألف أسرة دمرت منازلها على تأمين مساكن مؤقتة، كما شارفت على الانتهاء من برنامج الترميم الذي شمل عشرات الآلاف من المساكن المتضررة في جميع المناطق اللبنانية، كما أطلقت مشروع «وعد» الذي يشرف على أعمال إعادة إعمار الجزء الأكبر من المباني المهدمة في الضاحية الجنوبيّة، ويعمل على تنسيق أنشطة الشركات الاستشارية والمتعهدين بتفويض من المالكين.
    وفي البلدات التي يتولى المانحون فيها دفع التعويضات مباشرة، تحققت خطوات متقدمة، ويلاحظ أن وتيرة العمل في القرى الأربع التي تبنتها دولة قطر (عيتا الشعب، بنت جبيل، عيناثا والخيام) أسرع بكثير من وتيرتها في القرى الأخرى التي تدير الحكومة اللبنانية فيها عملية منح التعويضات بدلاً من المانحين، وينطبق الأمر نفسه على أعمال البنى التحتية حيث حصل تقدم كبير في المشاريع التي تشرف عليها الجهات المانحة بالتنسيق مع الدولة، كالجسور التي أنجز 56% منها تقريباً والعمل جار في الجسور الباقية، والطرقات التي تنفذ الجمهورية الإسلامية الإيرانية خطة واسعة لإعادة تأهيلها.
    وتبيّن الحقائق التالية التباطؤ الذي يسم أداء السلطات:
    ـــــ بالاستناد إلى بيان رسمي صادر بتاريخ 6/7/2007 يتبين أنّ مجموع التعويضات التي دفعتها الحكومة للمتضررين يبلغ 467 مليار ل.ل موزعة على الشكل الآتي:
  • 78 مليار ل.ل في الضاحية الجنوبية لحوالى 4200 وحدة سكنية أي ما يوازي 13% من مجموع المساكن المصابة و10% من المجموع التقريبي لقيمة التعويضات الإجمالية، ما يدل على أنّ عدداً قليلاً من المباني المهدمة كلياً قد تلقى تعويضات كاملة تسمح بالبدء بإعماره.

  • حوالى 389 مليار ل.ل في الجنوب أي ما يوازي ثلث التعويضات الإجمالية المستحقة للمتضررين.

  • لم تصرف أي مستحقات للمتضررين في مناطق البقاع والشمال على الرغم من الأضرار الواسعة التي لحقت بالمنشآت المدنيّة
    هناك.

  • وعلى العموم فإن مجموع التعويضات التي صرفتها الحكومة للمتضررين بعد مرور سنة على بدء العدوان لا يتجاوز 26% من مجموع المبالغ المستحقةـــــ لم تبد الحكومة حتى الآن أية نية للتعويض على المزارعين وأصحاب المصانع والمؤسسات التجارية، خلا التعميم الصادر عن مصرف لبنان الذي ينظم تقديم منح وقروض ميسرة للمؤسسات المتضررة المدينة للمصارف التجارية، بنسبة 80% من أصولها الثابتة المدمرة (60% منحاً و20% قروضاً ميسرة تموّل من فروق الفائدة على سندات الخزينة التي ستكتتب بها المصارف بفوائد منخفضة)، وعدا عن أن هذا التعميم لا يعالج أوضاع المؤسسات الأخرى غير المدينة ويستثني الأصول المتحركة فإنه ينص على أنّ الأولوية هي لتسديد الديون المتأخرة الواجبة للمصارف التجارية.
    ـــــ لم تستعمل الحكومة حتى الآن إلّا حوالى 31% من حجم التمويل المتوافر، و14.1% من التمويل الإجمالي، وتنخفض هذه النسبة كثيراً إذا أخذنا بالاعتبار أن جزءاً من إنجازات إعادة الإعمار موّلتها وبدأت بتنفيذها مباشرة الجهات المانحة، ووفقاً للبيانات الرسمية تلقت الحكومة حتى الآن ما يقارب 1923 مليار ل.ل من المساعدات النقدية المحصلة فعلاً أو هي قيد التحصيل، فيما بلغت القيمة الإجمالية للمساعدات المقبوضة والموعودة حوالى 2827.7 مليون دولار أميركي تشكل الهبات 68.1 % منها والباقي قروض ميسرة، ولا تشمل هذه الأرقام التمويل الداخلي.
    في المحصلة، فإن مستوى تقدم أعمال إعادة الإعمار التي تنفذها الحكومة والجهات المانحة يصل إلى حوالى 18% من مجموع التقديرات الرسمية للخسائر، فيما أنفقت الحكومة حتى الآن ما لا يزيد على 20% من المساهمات الواجب على الخزينة تغطيتها والتي قدّرها البرنامج الحكومي إلى باريس (3) بحوالى 1750 مليون $.
    إعادة الإعمار... ثلاث مقاربات:
    في أثناء النقاش حول سبل إعادة إعمار المناطق المدينية المهدمة، تبلورت المقاربات الثلاث الآتية:
    الأولى: إعادة إعمار شاملة مع تقديم منظور جديد للمنطقة يسمح بتطويرها وحل مشاكلها التخطيطية المزمنة. أي إن عملية التحديث ترتكز على المجال العمراني للمنطقة بأكملها، وتستهدف إيجاد هوية معدلة لها. وقد اعتمد هذه المقاربة عدد من مجموعات العمل المتخصصة غير الرسمية، ويمكن اعتبارها المدخل العمراني الوظيفي لكونها تعتمد التدخل التنظيمي شبه الشامل لحل المشكلات والمحافظة على سلامة المواصفات والشروط أكثر من اهتمامها بالعناصر الأخرى. وتتطلب هذه المقاربة إما شركة عقارية أو مؤسسة عامة تتولى تنفيذ المخططات الجديدة.
    الثانية: إعمار المنطقة على أساس المخطط المعمول به حالياً، لكن مع إدخال ما يمكن من تعديلات (تشييد مرافق بلدية واجتماعية، رفع مستوى البنى التحتية والخدمات العامة...)، أي إنها تقوم على التدخل الإشرافي المحدود لتحسين أوضاع المنطقة من جهة ولمساعدة السكان على تنظيم أنفسهم من جهة ثانية. وبينما ترتكز المقاربة الأولى على حل المشكلات في الحيز العام المشترك تقوم الرؤية التطويرية للمقاربة الثانية على الحيز الخاص عبر تحسين مواصفات الأبنية والمساكن. تعتمد هذه المقاربة المدخل السياسي الاجتماعي لكونها تضع في صدارة أولوياتها إعادة السكان في أسرع وقت لتخفيف معاناة التهجير مع إعطاء الأولويّة للتفضيلات الفردية التي يتبناها أصحاب المساكن على التفضيلات المشتركة التي تنبع من احتياجات التطوير الشامل للمكان. هذه المقاربة التي تبنّتها مؤسسة جهاد البناء عبر مشروع «وعد» لا تتطلب تغييراً في الوضع القانوني للمنطقة ويمكن القيام بها من طريق التعاقد المباشر بين أصحاب الحقوق والجهات الرسمية أو البلدية أو الأهلية المشرفة أو من خلال المتضررين أنفسهم.
    المقاربة الثالثة: وهي المقاربة التي اعتمدتها الحكومة وتقوم على عدم التدخل في عمليات الإعمار، وترك المتضررين يواجهون بمفردهم مهمات شائكة تتطلب تنظيماً عمودياً (بين أصحاب الملكيات المشتركة) وأفقياً (بين الوظائف التي تشغل الحيّز الجغرافي)، والاكتفاء من ثمّ بمنح المتضررين تعويضاً من دون ضبط الكيفية التي سيستعمل بها لاحقاً.
    وبما أن عملية إعادة الإعمار الحالية هي جزء من «إحياء المكان» في مقابل فكرة «إبادة المكان» فإننا أمام تحدّ وطني ذي طابع سياسي، ولعل الخيار الثاني يلبي على نحو أفضل هدف الاستقرار الاجتماعي، العنصر الحاسم في مواجهة سلاح التهجير الذي يحاول العدو من خلاله تعميق الاختلال الراهن في موازين القوى.
    نستنتج أخيراً أن المجتمع قد نجح حيث تعثرت الدولة، وأنّ منطق المشاركة المجتمعية تقدم على منطق البيروقراطية المترفعة، وتكفي دليلاً على ذلك المقارنة بين مشروع إعادة البناء الذي أدارته الدولة في التسعينيات والمشروع الذي تديره مؤسسات المقاومة حالياً. ولعل أهم ما في المشروع الثاني أنه يلقى دعماً ومساندة أهليّة واسعة في مقابل الممانعة التي لاقاها المشروع الأول، ويقوم على الثقة والتعاون والشراكة ويحظى بقدرة فائقة على تعبئة رأس المال الاجتماعي. كما تظهر المقارنة بين المشروعين وجود علاقة قوية بين فعالية الأداء ومدى اتحاد المصالح بين المشرفين على مشروع إعادة الإعمار والمعنيين بنتائجه.

    الجزء الأول | الجزء الثاني | الجزء الثالث