علي شهاب
شُغلت مراكز الأبحاث الأميركيّة بدراسة التأثيرات السلبية للإخفاق الإسرائيلي في حرب تمّوز على النفوذ والوجود العسكري الأميركي في الشرق الأوسط. كما انقسم الموقف حيال سوريا بين داعٍ للحوار معها ومطالب بزيادة الضغوط عليها

أدلى مستشار الأمن القومي الأسبق زبغينيو بريجنسكي بأوّل موقف له إزاء حزب تموز بعد أسبوعين من اندلاعها، في مقابلة مع مجلة «غلوبال فيو بوينت» استهلّها بالقول إنّ «سياسة المحافظين الجدد، التي أخذت إسرائيل منها مرادفاتها، ستقضي على أميركا، واستطراداً على إسرائيل. وسوف تقلب الغالبية العظمى من سكان الشرق الاوسط كلياً ضد الولايات المتحدة».
شكّل موقف الخبير السياسي الأميركي الحجر الأساس الذي بنت عليه معظم مراكز الأبحاث دراساتها للحرب، وإن اختلف الأسلوب، كلٌّ تبعاً لخلفيّاته وتوجّهاته.
من جهة ثانية، تقدّم الملف السوري الى صدارة الاهتمامات الغربية، سواء على المستوى الرسمي أو الأكاديمي، بعدما فرض صمود حزب الله واقعاً جديداً عزّز من موقع الحلفاء، وفي طليعتهم دمشق، علماً بأنّ التوصيات في هذا المجال تنوّعت بين داعٍ إلى فتح حوار مع سوريا بهدف إرغامها على التخلّي عن حزب الله، ومنادٍ بمزيد من الضغط من خلال السياسة، وتحديداً المحكمة الدولية والحدود مع العراق وشحنات السلاح إلى لبنان، من أجل الحصول على نقاط مجانية.
استعادة الدور السوري
بلغ النقاش البحثي الغربي حول سبل التعاطي مع سوريا حدّه بعيد صدور تقرير مجموعة العمل من أجل العراق (لجنة بيكر هاملتون) التي شدّدت على ضرورة التفاوض مع دمشق من أجل تسوية القضايا العالقة في الشرق الأوسط.
عموماً، يمكن القول إنّ سوريا من المستفيدين الأوائل من تداعيات الحرب، وخاصة أن صمود حليفها حزب الله قد عزّز من موقعها الإقليمي، وساهم في تخفيف الضغوط المتزايدة عليها منذ اغتيال الحريري.
هذه المكاسب السورية عكستها حركة الرسائل الإعلامية والسياسية التي أرسلتها تل أبيب إلى دمشق، بدءاً من تسريب الصحف الإسرائيلية نبأ المحادثات السرية بين الطرفين، إلى المناورات الإسرائيلية الاستعراضية في الجولان، وحتى الزيارات المكوكية لأعضاء في مجلس الشيوخ الأميركي ودبلوماسيين غربيين، ما أوحى بفتح ثغرة في جدار العزلة المفروضة على دمشق.
ووصلت المساعي الدبلوماسية الى ذروتها من خلال اجتماع دمشق وواشنطن على طاولة المصريين في شرم الشيخ، بذريعة تداول الملف العراقي، ومن ثم لاحقاً في بغداد تحت الشعار نفسه.
الموقف السوري المعزز دفع بالمبعوث الأميركي الأسبق الى الشرق الأوسط دينيس روس الى التنظير للحوار مع سوريا، في دراسة نشرها معهد واشنطن في شهر أيار الفائت، وذلك على قاعدة أن «أي قيادة إسرائيلية جديدة ستنشأ، نتيجة لتداعيات فينوغراد، لن تكون قادرة على اتخاذ قرار بحرب قادمة، لأنه لن يكون باستطاعة إسرائيل تقدير حجم الخسائر في مواجهة مفترضة مع سوريا».
وبالزخم نفسه، دعا الباحث في مركز سابان، أحد فروع معهد بروكينغز، جوشوا لانديس، إلى استئناف الحوار مع دمشق لأن سوريا «لن تكون قادرة عندها على تبرير تدخلها في الشؤون اللبنانية أو تبرير دعمها لحماس وحزب الله». وفي الندوة التي عقدها المركز في منتصف شهر تشرين الثاني من عام 2006، رأى لانديس أن «الذين يعتبرون أن الرئيس السوري بشار الأسد، رئيس ضعيف أو أحمق في حساباته السياسية، هم بحاجة إلى فهم لماذا يحافظ الأسد على الروابط القوية والدعم المتواصل لحركة حماس وحزب الله، وهو ما يبدو في واقع الأمر سياسة ذكية تماماً»، داعياً الى إعادة مرتفعات الجولان الى سوريا بهدف سحب الذرائع منها.
والجدير ذكره أن الدراسات الإسرائيلية لموقع سوريا بعد الحرب بدت أشدّ تطرّفاً، باعتمادها على مفردات التيار اللبناني المعادي لسوريا، كما هي حال العميد في الاحتياط الإسرائيلي شيمون شابيرا الذي بنى تقريره، الصادر عن مركز الشؤون المعاصرة التابع لمركز القدس بعد أيّام من انتهاء الحرب، على كلام منسوب لرئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط دعا فيه، ضمناً، الى تغيير النظام في سوريا ونشر قوة دولية في جميع الأراضي اللبنانية، على غرار كوسوفو، لمنع تدفق السلاح.
«العد العكسي للنزاع: التعزيزات العسكرية لحزب الله والحاجة لنزع سلاح فعال»، هو عنوان الدراسة التي وضعها شابيرا، المتخصص بشؤون الطائفة الشيعية في لبنان، مستعيراً من حديث جنبلاط الى الصحافي مايكل يونغ حين قال «ما دامت سوريا قادرة على إرسال أسلحة الى حزب الله، فلن يحصل أي تغيير في الوضع. ليس بوجود هذا النظام في دمشق. نحن في حاجة الى قوة قادرة على تغطية كل الاراضي اللبنانية، كما هي الحال في كوسوفو، لمراقبة الحدود السورية، وبعدها نتكلم».
من هذه النقطة، يستنتج شابيرا أن «الفشل في فرض حظر على تسلح حزب الله سيفرغ القرار الدولي 1701 من مضمونه ويزيد من مخاطر اندلاع اشتباك بين الحزب والقوات الدولية بالاضافة الى استمرار الصراع مع اسرائيل».
المصلحة الأميركية والدور الأوروبي
شكّل موقع اللاعبين الكبار على الساحة اللبنانية، بعيد الحرب، محطة دراسة لمراكز الأبحاث الغربية، فالولايات المتحدة «ترتكب خطأ جيوسياسياً فادحاً» بإهمالها حقيقة أن حزب الله هو «منظمة منتخبة ديموقراطياً»، بحسب وحدة التحليل الاستخباراتية في الإيكونوميست.
بدوره، يشير المنتدى البريطاني للنزاعات، في الدراسة التي وضعها أليستر كروك ومارك بيري، الى استطلاع للرأي جرى في مصر، إبّان حرب تموز، أظهر أن أكثر الزعماء السياسيين شعبية هما حسن نصر الله والرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد.
استنتج الباحثان البريطانيان أن استطلاع الرأي هذا «يعدّ تبرّؤاً من الرئيس المصري حسني مبارك الذي أطلق مواقف ضد حزب الله في بداية الحرب، ومن الملكين السعودي والأردني. ولكن بنهاية الحرب، كان هؤلاء يتدافعون مذعورين لإيجاد مخرج»، حتى إن دبلوماسياً أميركياً في المنطقة تساءل «لم نسمع الكثير عن هؤلاء في الآونة الأخيرة، أليس كذلك؟».
النتيجة الأولى للمعركة السياسية، بحسب الدراسة البريطانية، هي أن «السياسة الخارجية الاميركية في المنطقة تمر بصعوبات». وقد أكد أحد الدبلوماسيين الاميركيين هذا الأمر بقوله إن «الابواب أغلقت في وجه الاميركيين في عمان والقاهرة والسعودية (بعد الحرب). وعندما كنا نتصل، لم يكن أحد يُجيب على اتصالاتنا».
كذلك، برزت إحدى إشارات «الانهيار» السياسي الأميركي في جولة وزيرة الخارجية الاميركية كوندوليزا رايس التي لم تكن تستطيع تقديم حلول. وقد واجهت واشنطن بعد أشهر قليلة من انتهاء الحرب بين إسرائيل ولبنان استحقاقات سياسية في الشرق الأوسط؛ فازدادت ضبابية المشهد العراقي، بعد فشل الاميركيين في ضبط الاوضاع الأمنية، واختار أقرب حلفاء واشنطن كبريطانيا سحب القوات من العراق، وغرق الاميركيون في مواجهة غير مباشرة مع الإيرانيين على أرض العراق.
وفي هذا السياق، درس معهد واشنطن التقارب الشيعي الشيعي بين إيران والعراق كإحدى نتائج حرب تموز، إذ كان لافتاً خروج مئات آلاف الشيعة العراقيين في تظاهرة أكفان في مدينة الصدر ببغداد، تنديداً بالحرب على حزب الله. كما برز تحذير وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد، في أواخر تموز 2006، من أن عدوانية إسرائيل «ستؤدي الى نتائج رهيبة تضرّ بالجيش الاميركي» في العراق، حيث ظهرت الى العلن عمليات مصوّرة قامت بها فصائل شيعية «تضامناً مع المقاومة الإسلامية في لبنان».
وحالياً، تركز مراكز الأبحاث على معالجة أوجه الشبه بين أداء حزب الله عسكرياً وأداء الميليشيات الشيعية في العراق.
ولئن كانت المواجهة الايرانية الاميركية على أرض العراق نتيجة طبيعية لصراع الإرادات والمصالح الاستراتيجية، فإن سير «الميليشيات الشيعية العراقية على درب حزب الله» يضع الوجود العسكري الأميركي في دائرة الخطر، ويُعيد الى الأذهان «تجربة جيش الدفاع الاسرائيلي في جنوب لبنان».
وتحت عنوان «مقارنة وتباين حزب الله والميليشيات العراقية»، وضع الباحث في المعهد الأميركي اندرو اكسوم تقريراً ملخصاً يستهله بالاشارة الى أنه «في الآونة الأخيرة، بدأ ضباط الجيش الاميركي والمخططون الاستراتيجيون بمقارنة الميليشيات الشيعية العراقية، وخاصة جيش المهدي، بحزب الله، الميليشيا الشيعية والحزب السياسي المهيمن في لبنان».
أما هدف قادة الجيش الأميركي من إجراء هذه المقارنة فهو، بحسب اكسوم، محاولة «فهم هذه الميليشيات، والتنبؤ بأفعالها في المستقبل القريب».
ويرى الباحث، الذي قاد فصيلاً عسكرياً أميركياً خلال غزو العراق عام 2003، أن حزب الله تحول، بعد حرب تموز الأخيرة، الى «نموذج للمقاومة والبسالة العسكرية»، وهو نموذج يخشى الأميركيون «أن تحاول الميليشيات الشيعية في العراق تقليده».
ويرى اندرو اكسوم أنه «اذا صح أن المروحيات العسكرية الاميركية التي تسقط في العراق، قد تحطمت نتيجة لصواريخ تُطلق من على الكتف، فعلى الجيش الاميركي أن يقلق، لأن هذا يعني ان الميليشيات العراقية لا تتلقى فقط تمويلاً من الخارج، بل تحصل على تدريب وأسلحة من إيران».
من هذا المنطلق، يشدد اكسوم على «ضرورة تحديد ما هي اللعبة التي يلعبها الايرانيون في العراق»، مع طرحه فرضيات بأن إيران «ربما تنتظر لتحديد أي ميليشيا شيعية هي الاقوى، كي تدعمها بشكل كامل، أو ربما ستقوم مباشرة بدعم ميليشيا منشقّة، كما حصل مع حزب الله الذي انفصل عن حركة أمل».
إن فشل الحرب الأميركية الاسرائيلية على حزب الله في تحقيق أهدافها قد زاد من تعقيد الملف العراقي، بسبب الاستنفار في الوسط الشيعي العراقي غداة الحرب، وتعزز نظرية المقاومة كنموذج مناسب في مواجهة أي احتلال.
وكما في المقاربة العسكرية، يسير جيش المهدي في العراق على الخطى التنظيمية لحزب الله في لبنان، بحسب ما ترى صحيفة «كريستيان ساينس مونيتور» في عددها الصادر في حزيران 2007 تحت عنوان «صعود الشيعة»، إذ «تتشكّل طموحات مقتدى الصدر على غرار ما فعل حزب الله، أي تشكيل قوات فدائية وسرية متطورة»، علماً بأن الصدر أعلن بوضوح في حديث إلى صحيفة «الاندبندنت» البريطانية أن «حزب الله و جيش المهدي هما وجهان لعملة واحدة».
وفي ساحة تحدٍ ثانية أمام الاحتلال، في أفغانستان، استعادت حركة طالبان قوتها وأعادت سيطرتها على عدد من المناطق، بينما تراجعت العملية السياسية إلى حدّ صار فيه دور حليف واشنطن الرئيس الأفغاني حميد كرزاي «أقلّ من موقع رئيس بلدية كابول»، على حد تعبير وحدة التحليل في «الايكونوميست» البريطانية التي أدرجت التطورات الأفغانية ضمن التداعيات الاستراتيجية لحرب تموز.
والحال ذاتها بالنسبة إلى عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، إذ لم تستطع الدبلوماسية الاميركية دفعها قدماً، بعد أن اختارت فرض عزلة ومقاطعة الحكومة الفلسطينية التي تتزعّمها حركة المقاومة الإسلامية (حماس). والأهمّ أنّ مشاعر العداء للولايات المتّحدة الأميركية صارت أكبر في المنطقة، وأدّى هذا الأمر إلى أزمات سياسية في لبنان بين سلطة مدعومة من واشنطن ومعارضة تتّهمها بشنّ حرب على البلاد، وغليان في صفوف الإخوان المسلمين في مصر في مواجهة النظام المدعوم أميركياً. باختصار، يمكن القول إنّ الإدارة الأميركيّة ذهبت بعيداً في اتّخاذ موقع سلبيّ في الشرق الأوسط.
أما الأوروبيّون، فهم يحافظون على نوع من التمايز عن السياسة الأميركية في لبنان لأن «القوى الأوروبية تخشى أن تلعب دور الحامي لإسرائيل، وأن تغرق في المستنقع اللبناني»، ذلك أنَّ الأوروبيّين يعلمون «ماذا بمقدور حزب الله أن يفعل»، بحسب الإيكونوميست، في إشارة إلى القدرة العسكرية للحزب، ووجود آلاف الجنود الأوروبيّين ضمن القوات الدولية التابعة للأمم المتحدة في جنوب لبنان.
غير أنّ وجهة نظر المحلّل الاستخباراتي في معهد واشنطن ماثيو ليفيت حيال الدور الفرنسي في لبنان تتخطّى أهداف السياسية لتلامس «تدمير» حزب الله. هذا هو الدور الذي أراده ليفيت للرئيس الفرنسي الجديد نيكولا ساركوزي الذي «يحتلّ موقعاً فريداً يمكّنه من أن يجعل (الأمين العام لحزب الله السيد حسن) نصر الله يخاف حقيقة أو واقعاً ما» إذا ما ساعدت باريس في وضع الحزب على لائحة الإرهاب الأوروبية.




المصدر:
اعتمدت هذه المقالة على عدد من المصادر، أهمّها: مركز سابان، معهد واشنطن، مركز الشؤون المعاصرة التابع لمركز القدس، مجلّة «الإيكونوميست»، مجلة «غلوبال فيو بوينت»، والمنتدى البريطاني للنزاعات