راجانا حمية
بين كل مكتب توظيف وآخر قريب منه تقع عدة مكاتب تتخصص أيضاً في البحث عن عمل للعاطلين. صارت طوابير الشباب تتجمع فيها بدلاً من أن يقف أصحاب الكفاءات أمام أبواب السفارات. تعود طفرة المكاتب إلى ارتفاع البطالة والتسليم بمقولة أنّ «لكل عاطل مكتب... والرزقة على الكريم»

بعد ثلاث سنوات من التخرّج، وجدت تينا الزين نفسها أمام أحد مكاتب التوظيف في شارع الحمراء في بيروت، فراحت تطرق بابه بيدين جهدتا مراراً في التفتيش «عمّا يسدّ الرمق»، بعيداً من «طموحاتٍ استُنفدت صلاحيتها منذ فترةٍ طويلة».
تينا، وبعد هذه السنوات الثلاث، تبحث عن «أي عملٍ»، هي التي درست التصميم الغرافيكي وإدارة الأعمال، ولم تعد تهتم بأي ميدان ستعمل إذ المهم أن تجد وظيفة تساعدها في إعالة والدتها وشقيقيها.
حاجتها إلى ذاك العمل قادتها إلى المكتب، وصلته متأبّطة، كالعادة، سيرتها الذاتية... و10 دولارات هي ثمن وضع اسمها على لائحة «الانتظار». دخلت تينا غرفة الانتظار، جلست ترقب الباحثين عن عمل بنظراتها وتفكّر «ما إذا كانت الظروف هي نفسها التي دفعتهم إلى هنا»، شردت وهي تحاول أن تتخيل ما يجول في خواطرهم، إلى أن صحت على صوت إحداهنّ تطلب منها الدخول إلى الغرفة المجاورة «من أجل تعبئة استمارة العمل».

الطائفة والجسد

في البداية وجّهت الموظفة أسئلتها التقليدية عن المجال الذي تودّ تينا أن تعمل فيه وقيمة الراتب الذي تريد أن تتقاضاه ومكان العمل «في لبنان أو في الخارج»، فأجابت الشابة السمراء بأنّها في حاجة «إلى أي وظيفة إداريّة في أي مكان». انتهت الموظّفة من أسئلتها التمهيدية، وعادت إلى «ورقة الاستجواب»: «شو اسمك، عمرك، المستوى التعليمي، الوضع العائلي، و... و...» إلى أن وصلت إلى السؤال الأخير من المعلومات الشخصيّة «شو دينك؟» قد يبدو السؤال للوهلة الأولى طبيعياً في لبنان، إذ صار الانتماء الطائفي أبرز «مكونات» الهوية الشخصية، ولكن ما دخل الطائفة باستمارة العمل؟ احتارت تينا في خياراتها «هل أقول مسلمة أو مسيحيّة، وما أدراني أيّهما قد يفضّله صاحب العمل؟».
تينا «اعترفت بدينها وطائفتها أيضاً»، ولم تجرؤ على الإعلان بأنها علمانية. ولكن هل المطلوب أن تكون تينا أو... مستوفية لـ«الشروط الدينية» لكي تحصل على الوظيفة؟ في هذا الإطار، تستعيد عليا الراجح، الموظّفة في إحدى شركات التوظيف، حادثة «العشرين مسيحياً»، يوم جاء مسؤول قسم التوظيف في إحدى الشركات في دبي لإجراء المقابلات مع «المقبولين مبدئياً للوظيفة الذين كان عددهم حوالى 25 شخصاً». وتلفت عليا إلى أنّه في ذلك اليوم، وقبل إجراء المقابلات، بادر المسؤول إلى القول «عليا، إن شاء الله فيهم شي حدا مسيحي؟»، ارتعبت عليا من السؤال، وخصوصاً أنّ عشرين منهم «هم مسيحيون»، واستدركت قائلة «أين تكمن المشكلة، إن كانوا أكفّاء؟»، غير أنّ جوابها لم يجد آذاناً صاغية، واقتصرت المقابلة على «المسلمين» بسبب طبيعة الوظيفة ومكان العمل «بين جدّة ومكّة». وبناءً عليه، استنتجت عليا «بعد خبرة سنوات من التعامل مع الشركات الخليجية والأجنبية، أنّ الدين في طلب العمل يُحدّد نزولاً عند رغبة صاحب المؤسّسة وحاجته وطبيعة العمل!». شرط تحديد الدين في استمارة العمل ضيّق الخناق على الكثيرين، ولا سيّما من يبحثون عن العمل داخل وطنهم الذي أسلم مؤسساته كافّة لملوك الطوائف.
ولكن اللافت أن غالبية الباحثين عن عمل لا يعترضون على هذا الأمر. ارتضت تينا «العلمانية» الكشف عن سجلّها الديني. ولكن ما لم تستطع تقبّله في طلب العمل هو أن تبادر الموظّفة، بعد «الفضيحة الدينية»، إلى سؤالها عن وزنها وطولها ولون شعرها وعيونها. ولم يكن من تينا إلاّ أن أجابت عن السؤال بسؤالٍ آخر «ولكن هل هي وكالة أزياء؟ وماذا لو كان وزني 80 كيلوغراماً وطولي 150 سنتيمتراً... وصاحبة كفاءة عالية، هل يرفضونني؟». كانت تينا تتوقّع من الموظّفة أن تبرّر موقفها، ولكنّها فوجئت بالجواب فـ«الوظيفة الإدارية هيك بدها، والمسؤول كمان».
هكذا وجدت تينا نفسها أمام خيارات قليلة، فإما أن تقبل بالإجراءات المطروحة في هذا المكتب أو أن تطرق أبواب مكاتب أخرى... أو البحث عن «فيتامين واو» من الدرجة الأولى، وذلك لكي تتمكن من التغلب على الشعور بالإحباط، فهو بالتحديد القوة التي يحتاج إليها المرء لكي يواجه مصاعب الحياة التي لا تنتهي.
تجربة تينا تشكل مثالاً لتجارب يخوضها مئات الشباب، أو خريجو المعاهد والجامعات الذين لم يخرجوا بعد من صدمة «ما بعد التخرّج». علي شمالي واحد من هؤلاء، تخرّج قبل ثمانية أعوام ولم يجد حتى الآن عملاً «لا من طريق المكتب ولا غيره». علي، الشاب «المشاغب» في أحلامه وطموحاته، يشعر أنه من خلال تجربته مع مكاتب التوظيف إنما يقف أمام حائطٍ مرتفع يمنعه من رؤية الأفق، فبعد جولة ثلاث سنوات عليها، انتهت في مكتبٍ في حارة صيدا، طلب منه المسؤول فيه تسلم عملٍ من الثامنة صباحاً إلى الثامنة مساءً مقابل 200$... على أن تكون «أوّل 200$ للمسؤول، لزوم تأمين
الوظيفة».
قد تكون الشروط في هذا المكتب تختلف عمّا هي عليه في المكتب الذي تقدّمت إليه تينا، إلاّ أنّ مسألة الاقتطاع من الراتب الأوّل باتت «قانوناً» تفرضه كل المكاتب. وفي هذا الإطار، توضح فدوى داغر الموظّفة في أحد المكاتب «أنّ ربح المكتب يأتي من هذه النسبة التي نقتطعها من الراتب، إضافة إلى ما نأخذه من المؤسّسة التي نتعامل معها أيضاً». وتلفت فدوى إلى أنّ النسبة تختلف بين موظّف وآخر، وذلك تبعاً لقيمة الراتب، على ألاّ يتعدّى المبلغ المقتطع الراتب الواحد.
ومن يجد ضالّته في مكتب التوظيف... وينال الوظيفة وثقة أصحاب العمل، يواجه الكثير من الصعوبات. فاديا أبو شهلا انتقلت قبل سنتين للتعليم في إحدى المدارس في دبي، ووجدت وظيفتها هذه من طريق مكتب التوظيف. فاديا تجد صعوبة في الحكم على مدى فاعلية تلك المكاتب، وخصوصاً أنّها «ناضلت» كثيراً للحصول على وظيفتها. وتلفت فاديا إلى أنّها «جربت أكثر من 60 مكتباً، حتّى إنّني دفعت حوالى 3000 دولار ثمن طلبات العمل».
وثمّة من ارتضى الوظيفة الأولى التي كانت تقترحها مكاتب التوظيف، من دون تحديد قيمة الراتب أو مجال العمل أو النسبة المقتطعة من الراتب التي قد تتعدّى الشهر الواحد لتصل إلى حدود رواتب ثلاثة شهور. وقد واجهت غادة الراعي هذا الواقع، ووافقت على الوظيفة بالمواصفات التي «فرضها» المكتب لسببين، أوّلهما «ثقتي بأنّ الوظيفة لن تأتي بسهولة في لبنان»، وثانيهما «أنّ الأشهر الثلاثة الأولى تكون دائماً ضمن إطار التجربة، لذلك أعلن موافقتي على خوضها من دون مردود مالي».

شرعيّة «مسروقة»

هل تملك مكاتب التوظيف أهلية الاستمرار في عملها؟ وهل تتمتّع بالشرعيّة التي تحكم أيّة مؤسسّة معترف بها في لبنان؟ قد تكون تلك المكاتب مخالفة لكل الشروط القانونية، ولكن درجة الحماية التي تتمتّع بها من «النافذين السياسيين» تنفي عنها صفة «اللاشرعيّة»، وتعمل كأيّة مؤسّسة خدماتية
أخرى.
يلفت مصدر مسؤول في وزارة العمل إلى «أنّ هذه المكاتب غير معترف بها من الناحية القانونيّة، ولكن المشكلة تكمن في أنّها تُسجّل في وزارة العمل تحت بند مؤسسات للتجارة أو الخدمات أو مكاتب الاستقدام». ويشير المسؤول نفسه إلى أنّ المؤسّسة الوحيدة المعترف بها قانونياً هي المؤسّسة الوطنيّة للاستخدام، وهي المخوّلة بتّ كل طلبات التوظيف والاستخدام. ويوضح أنّ «شرعنة» هذه الشركات مردّه إلى أسبابٍ ثلاثة، لعلّ أهمّها أنّ معظم أصحابها «ملحقون بنافذين سياسيين»، إضافة إلى تلاعب المكاتب بالقانون عبر «سرقة» التراخيص تحت بنودٍ شرعيّة. وإنّ بعض الوزارات، ولا سيّما وزارتي العمل والمال، دخلت في لعبة مكاتب التوظيف، وبات العمل على إنشائها يتمّ بالتواطؤ بين هذا الثالوث... مع بعض التوصيات «الجانبيّة». وإذا أضفنا إلى هذا الثالوث، سبباً آخر ساهم في انتشار تلك المكاتب، لا تخرج الوزارات من دائرة الشك، وخصوصاً في ظلّ غياب الدراسات والإحصاءات حول سوق العمل ومدى حاجتها، إضافة إلى غياب الرقابة على المؤسسات بعد إعطاء التراخيص، بحجّة غياب التنسيق.
من جهة ثانية، تخالف «المكاتب الوهميّة» المادّة 8 من مرسوم المؤسسة الوطنية للاستخدام الاشتراعي رقم 77/80 التي تنصّ على «أنّه اعتباراً من تاريخ العمل بهذا المرسوم الاشتراعي، لا تعطى أية رخصة لإنشاء مكاتب استخدام خاصة أو مكاتب تقوم بأعمال تدخل ضمن مهام المؤسسة الوطنية للاستخدام، كما لا تُجدّد ولا تُعدّل أية رخصة معطاة مسبقاً بهذا الشأن ولا يُسمح بالتفرغ من الرخصة المذكورة ولا بانتقالها عن طريق الإرث والوصية».




إنهم يزحفون إلى الشبكة الافتراضيّة اللافت اليوم، أنّ بعض هؤلاء الشباب أو معظمهم تنبّهوا في الفترة الأخيرة إلى الغزو الذي تشنّه بعض مكاتب التوظيف، وباتوا روّاداً «مياومين» لتلك المواقع. عبد الرحيم العوجة واحد من هؤلاء، إذ بات الشاب العشريني ضيفاً دائماً في موقعي «Monster» و«Bayt»، يرتادهما أسبوعياً للاطّلاع على الوظائف الجديدة فيهما. تجربة عبد الرحيم مع «Monster» لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة كما يلفت، فقد سبق لهذا الشاب أن ارتاد مكاتب التوظيف الواقعية، وقدّم ما يكفي من السير الذاتية والدولارات، ولم تفلح أيّ من محاولاته الخمسين في إيجاد وظيفة. يأسه دفعه إلى استثمار أوقات فراغه والأوقات «التي كان من المفترض أن تكون محجوزة للوظيفة» في التشاتينغ والتفتيش عن أصدقاء جدد، إلاّ أنّه ما لبث أن استرجع العادة القديمة، وعاود البحث عن عمل، ولكن هذه المرّة عن طريق الشبكة الإلكترونيّة. يقتطع عبد الرحيم صباح كل اثنين ساعتين كاملتين من وقته للاطّلاع على الوظائف التي يدرجها المكتب، واختيار ما يناسبه منها ومن ثمّ إرسال سيرته الذاتية... ولكن من دون 10 دولارات، ربّما لأنّ تلك المكاتب لم تحدّد مسارها بعد، وكلّ ما تطمح إليه هو الوصول إلى أكبر شريحة من الشباب.