جان عزيز
في حمأة انتخابات عام 2005، طلب نائب كسرواني سابق، مرشح على اللائحة المنافسة لميشال عون، من زميل له قادر على إيصال الصوت، أن يناشد وليد جنبلاط الصمت، مؤكداً له أن كل كلمة يقولها سيد المختارة تؤدي إلى خسارة حلفائه في الدوائر المسيحية ألف صوت.
ولم يشذ حساب البيدر يومها عن توقعات أصحاب الحقل. كأنما جنبلاط تلفّظ في حينها بما يعادل ثلثي آلاف المقترعين، فلم يحظ أصدقاؤه إلاّ بأقل من الثلث في صناديق الاقتراع. ومع ذلك يسكت البيك الاشتراكي. فبعدما أمضى حملته الانتخابية، متحالفاً مع سمير جعجع وأمين الجميل، وهو يشيد بمعارك سوق الغرب وقتلاه من «جيش التحرير الشعبي»، عاد في أول اجتماع لكتلته ليتذكر ويذكّر بأن «تضحياته» هي من أدخل الاحتلال السوري إلى المناطق المحررة في 13 تشرين الأول 1990.
يبدو مرشح الموالاة المتنية، الرئيس أمين الجميل على شفير أن يوجه الطلب نفسه إلى سعد الدين الحريري، وخصوصاً بعدما استعاد الحريري الشاب أول من أمس، شعار «زي ما هيي»، مضموناً عقائدياً بالغ العمق والفكر والدلالة، لمعركتيه المقبلتين، في بيروت الثانية والمتن الشمالي.
ويؤكد مواكبون لمعركة الجميل أن ظروف المواجهة معقّدة في شكل كبير، من دون أن يضاف إليها تذكير من قريطم جديد، بوجه البترو ــ دولار الدائم، ولا بالذهنية التي ألغت يوم الجمعة العظيمة وأدخلت الطفل اللبناني عهد حقوقه في الإسلام ورفعت عدد الجمعيات المذهبية المرخّصة إلى حدود غير مسبوقة، وجعلت الدعوة إلى الخلافة الإسلامية مسألة طبيعية مرخصاً لها قانوناً، ونسجت بيوت العنكبوت حول العلاقة بأصوليي «فتح ــ الإسلام» و«جند الشام» وإخوانهما في الوطن الأكبر والقطر الأصغر في قياس الأمة...
ومن التعقيدات التي كانت قد واجهت الجميل أصلاً، سلسلة طويلة يعدّدها المواكبون أنفسهم كالآتي:
1 ـــ عدم تمكنه من إمرار ترشيح نجله سامي عبر آليات حزب الكتائب، وذلك لأسباب تنظيمية باتت معروفة. وهذا ما جعل ترشيحه الشخصي أمراً مفروضاً عليه فعلاً، علماً بأن قريبين من الرئيس المرشح يضيفون قراءة ثانية في هذا الإطار مفادها اقتناع الجميل بوصول البلاد إلى فراغ رئاسي بعد أسابيع قليلة واتجاهها إثر عبور صحراء فراغية طويلة نسبياً، إلى تسوية نظامية جديدة، على غرار اتفاق الطائف. وبالتالي فإن من يكون حاضراً في الندوة النيابية في حينه، يكون قادراً على «البيع والشراء». وهذا ما يقتضي ترشيحه شخصياً، بمعزل عن عقدة سامي الكتائبية.
2 ـــ عدم تمكن الرئيس المرشح من انتزاع تطمين واضح من الرئيس نبيه بري، لجهة تعاطي الأخير مع نتائج الانتخابات المخالفة للقانون والميثاق. ففيما سوّقت عين التينة لرواية النصيحة المهداة إلى الجميل، بتجنب تعرضه لإحراج عدم السماح له بدخول ساحة النجمة، نقل الجميل نفسه إلى قريبين منه ارتياحه إلى لقائه بري، من دون تفاصيل شافية.
3 ـــ عدم قدرته ـــ لظروف عائلية خاصة، كما سياسية عامة ـــ على الإقدام أكثر للتوافق مع ميشال عون وتجنّب الامتحان القاسي. وهو ما تمّ السعي إلى الالتفاف عليه عبر الديمان، فزارها من حمل التمنيات بحصول تحرك بطريركي للتسوية، من دون أن يبدو الجميل ساعياً إليها. وهذا ما رد عليه الصرح ببرودة ظاهرة تمثلت بتحرك المطران بولس مطر يوم أمس، حاملاً مجرد سؤال عن الفرص المتاحة لذلك، جازماً لمن التقاهم، بأنه لم يحمل أي مبادرة ولا أي تصورات لها.
4 ـــ إحساس دفين ومكتوم لدى قريبين من الجميل المرشح، بأنه أوقع وسط شبكة من الحسابات السلبية. فحلفاؤه المعلنون قد لا يكونون مزعَجين ولا متضررين من تحجيمه بهدف إزاحته من «التمهيديات الرئاسية الداخلية» لفريقهم. و«حلفاؤه» المحايدون اكتفوا بالكلام والمناورة، لإدراكهم أن «اللعبة» السياسية الجدية التي يتطلعون إليها ليست عنده، وفق تصورهم. ولم يبقَ له إلاّ الوقوع بين تحريض «الحلفاء» أنفسهم الذين استدرجوه إلى استعداء ميشال عون بعد جريمة 21 تشرين الثاني الماضي، وعدم فهم الكثيرين لذلك الموقف في حينه، وخصوصاً بعدما دخلت بكركي مباشرة على خط السعي إلى ترتيب الأمور وردت خائبة وسط ذهول سيد الصرح.
5 ـــ بداية تكوّن انطباع مسيحي عام بأن المنظومة الحريرية نجحت مرة جديدة في ترتيب أوضاعها بواسطة تفاهمات تحت الطاولة في بيروت، وهي تدفع إلى خوض معركتها مرة أخرى، على أرض المتن، وبواسطة المسيحيين دون سواهم.
6 ـــ إحساس الجميع بأن الانجراف أكثر من السلطة وماكيناتها الانتخابية، في محاولة التماهي بين ميشال عون ومفردات «القتلة» و«الجريمة»، سيؤدي إلى رد فعل مسيحي في اتجاه آخر، كما إلى فتح أبواب الحقائق والوقائع الكاملة في وجهها، وخصوصاً لجهة تاريخية العلاقة بين الجميل وعون من جهة، وتاريخية العلاقة المقابلة بين الجميل والحريري من جهة ثانية، منذ ربع قرن وحتى اليوم، مع ما يحمل هذا الأمر من تعقيدات إضافية. وسط ذلك كله، نبش سعد الدين الحريري شعار «زي ما هيي»، فهل يطلب منه حلفاؤه الصمت المطبق؟