نهر البارد ــ نزيه الصديق طرابلس ــ عبد الكافي الصمد

سبـــاق الأمتـــار الأخيـــرة في البـــارد: حـــلّ سيـــاسي أو «مجـــزرة»؟

مع أن جبهات مخيم نهر البارد كلها اتسمت قبل ظهر أمس بالبرودة والهدوء الحذر غير المسبوق، وذلك للمرة الأولى منذ اندلاع الاشتباكات بين الجيش ومسلحي حركة فتح الإسلام في 20 أيار الماضي، فإن الاشتباكات التي دارت بعد ظهر أمس في عمق المخيم، كسرت هذا الانطباع، وتحولت «برودة» البارد إلى سخونة لافتة في فترة بعد عصر أمس.
وكان تراجع حدة الاشتباكات قبل ظهر أمس قد أوحى للوهلة الأولى أن ثمة أمراً ما يُعدّ له، إما لإعطاء فرصة للمساعي السياسية الأخيرة، أو ترقباً لتطور عسكري ما على الأرض.
وشهدت محاور المربع الأمني الذي يتحصن فيه المسلحون اشتباكات متقطعة قبل الظهر، قبل أن تعنف قرابة الثانية عشرة ظهراً، وامتدّت قرابة ساعة، قصفت خلالها مدفعية الجيش بعنف مواقع مسلحي فتح الإسلام وتحصيناتهم في محيط جامع محمد علي في الجبهة الغربية للمخيم. كذلك انهمرت القذائف على تخوم المخيم القديم، وفي حي سعسع التحتاني.
واستقدم الجيش لهذه الغاية تعزيزات إلى المنطقة، وواصل عمليات تبديل بين القوى العسكرية، كذلك سيطر على المنطقة الساحلية بالنار بعد اشتباكات دارت في المنطقة، وبات يراقب المسلحين عن كثب ويرصد تحركاتهم، ويتعاطى معها بالأسلحة المناسبة، حيث تمكن حسب مصادر عسكرية من قتل قناصين من المسلحين، وتحديداً في حي سعسع الفوقاني.
وعصر أمس، أفيد بسقوط صاروخ في حي بيت طه في المنيه، مصدره مواقع المسلحين داخل المخيم، واقتصرت الاضرار على الماديات التي اصابت خصوصاً اشجار الحمضيات.
غير أن تطوراً بارزاً وخطيراً حصل بعد عصر امس، وطرح تساؤلات وهواجس عدة عن حقيقة ما يحصل في مخيم نهر البارد، وذلك بعدما قام مسلحو «فتح الاسلام» بما يشبه الهجوم المضاد على مواقع الجيش عند محور مركز ناجي العلي الطبي، على تخوم الحدود الفاصلة بين المخيم القديم والجديد في المحور الشمالي، حيث أفيد عن إقدام المسلحين على نزع الأعلام اللبنانية وأعلام الجيش عن بعض المواقع في المحور المذكور، الأمر الذي أعقبه حصول اشتباكات عنيفة، أدت إلى وقوع إصابات في صفوف الجيش برمايات القناصة من عناصر فتح الإسلام، أو نتيجة القذائف الصاروخية المتبادلة، وشوهدت سيارات الإسعاف التابعة للصليب الأحمر وهي تنقل الجرحى والمصابين إلى المستشفيات. ونعت قيادة الجيش أمس ضابطاً وجندياً. كما افادت مصادر طبية ان 11 جنديا لبنانيا جرحوا ليرتفع إلى 116 عدد العسكريين الذين استشهدوا منذ بداية المعارك وفق حصيلة عسكرية.
وشيّعت قيادة الجيش، أمس، النقيب الشهيد طوني خليل سمعان من ابلح ـــــ زحلة، والمعاون أول أحمد محمد فرحات من بلدة سحمر ـــــ البقاع الغربي. واحتُضن الشهيدان من أهالي بلدتيهما ورفاق السلاح بمواكبة شعبية حاشدة، ثم أقيمت الصلاة، وألقى ممثل العماد قائد الجيش كلمة نوّه بتضحيات الشهداء «الذين برّوا بالوعد والقسم التزاماً برسالتهم ودفاعاً عن سيادة الوطن وكرامة أبنائه». ويوم أول من أمس شيعت قيادة الجيش العريف الشهيد أحمد خالد محرز، حيث احتضن من جانب أهالي بلدة حرار عكار ورفاق السلاح، في موكب شعبي حاشد ثم أقيمت الصلاة على جثمانه الطاهر وألقى ممثل العماد قائد الجيش كلمة نوّه فيها بمناقبية الشهيد وتضحياته الكبيرة.
وتزامناً مع ما حصل على محور ناجي العلي، شهد المحوران الشرقي والجنوبي، كذلك المحور الغربي، اشتباكات عنيفة وتبادلاً للقصف بمختلف أنواع الأسلحة الرشاشة، وارتفعت سحب الدخان والغبار لتغطي سماء المخيم.
وانطلاقاً من الوقائع والتطوّرات الميدانية التي ترجمها الجيش عسكرياً على الأرض، فإن هذه الوقائع تشير بوضوح إلى أنّه حقّق تقدماً لا غبار عليه، واستطاع بسط سيطرته على نحو ثلثي مساحة المخيّم تقريباً، وتحديداً الجديد منه بأغلبه، وجانباً من القديم، بعدما اتّبع سياسة قضم مواقع مسلحي الحركة موقعاً موقعاً.
وترافق هذا الإنجاز مع غطاء لبناني وفلسطيني واسع له، سياسي وشعبي، خصوصاً بعدما نفض جميع الأطراف والقوى على الساحة الإسلامية، اللبنانية والفلسطينية معاً، يدهم نهائياً من هذا التنظيم، ورأوه «ظاهرة غريبة عليهم، لا تمتّ إليهم ولا إلى الإسلام».
غير أنّ إطالة أمد المعركة أكثر من شهرين (دخلت في يومها الـ65)، وسقوط خسائر بشرية كبيرة في صفوف الجيش، عدا الأضرار الاقتصادية الكبيرة التي نتجت منها، والأزمة الاجتماعية المتشعبة والمتعددة الأوجه، المتعلقة بنزوح نحو 30 ألف شخص من مخيّم نهر البارد، وإقامتهم في مخيّم البدّاوي وغيره، في ظروف إنسانية بالغة البؤس، باتت تنذر في حال عدم معالجتها سريعاً بتحوّلها إلى قنابل موقوتة قد تنفجر في أيّ لحظة.
أمّا في المقلب الآخر من المعركة، فقد أوضح مصدر فلسطيني مطلع أنّ «المعركة الحقيقية مع جماعة «فتح الإسلام» لم تبدأ بعد، وأنّه ما لم يتمّ التوصّل إلى حلّ ومخرج سياسي للأزمة، فإنّ الثمن الذي سيُدفع نتيجة الاحتكام إلى الحسم العسكري سيكون كبيراً جدّاً».
وتوافق هذا الرأي مع ما أفادت به معلومات أدلت بها جهات موثوقة لـ«الأخبار» من أنّ «المسلحين باتوا يتحصنون الآن في الموقع الأشدّ تعقيداً في المخيّم، إن لناحية الملاجئ المحصّنة فيه، أو الألغام التي لم يترك المسلحون متراً واحداً فيه بلا تلغيم، أو كميات الأسلحة التي بحوزتهم وأنواعها، خصوصاً بعدما وضعوا يدهم على مخازن الأسلحة التابعة للفصائل الفلسطينية في المخيّم، وذلك إثر خروج العناصر الموالية لهذه الفصائل منه قبل أيّام على نحو جماعي وكامل، عدا أنّ قوتهم العسكرية لم تصب بأضرار كبيرة، خصوصاً لناحية الخسائر البشرية التي منوا بها، إضافة إلى اتّباعهم أسلوب حرب العصابات مع الجيش».
وأشارت هذه الجهات إلى أنّ «عدد المسلحين الموجودين داخل مخيّم نهر البارد الآن يتجاوز 350 عنصراً، على عكس ما يشاع عن أنّهم لا يتجاوزون حدود الـ80 مسلحاً في أحسن الأحوال، موزّعين على جنسيات مختلفة، أبرزها السعودية والفلسطينية واللبنانية، وأنّ معظم المطلوبين للسلطات القضائية اللبنانية، من لبنانيين وفلسطينيين تحديداً، قد انضوى في صفوف «فتح الإسلام»، وهؤلاء يرفضون البحث نهائياً في موضوع تسليم أنفسهم للسلطات اللبنانية، الأمر الذي ساهم في تعقيد المشكلة، وجعل احتمال إنهائها عسكرياً فيه الكثير من المخاطر، لأنّه سيؤدّي في نهاية الأمر إلى حصول «مجزرة» كبيرة في صفوف الطرفين».
في موازاة ذلك، برزت تساؤلات عدّة عن أسباب ومصير التحرك الأخير لـ«رابطة علماء فلسطين» باتجاه القادة والفاعليات السياسية اللبنانية، واحتمال التوصّل إلى حلّ ينزع فتيل الأزمة، وهو أمر أشار إليه عضو الرابطة الشيخ محمّد الحاج لـ«الأخبار» من أنّ «تحركنا الأخير لا يهدف إلى إقرار هدنة ما، بل لبلورة مبادرة جدّية ومتكاملة للحلّ، وللخروج من هذا النزيف الذي لا يستفيد منه أحد»، لافتاً إلى أنّ «مبادرتنا تلقى تأييد جميع الفاعليات السياسية التي نلتقيها بلا استثناء ودعمها».
وأوضح الحاج أنّ «تواصلنا مع قيادة الجيش لم ينقطع، برغم تعليقنا مبادرتنا في السابق، لأنّ هناك أموراً تحتاج للمتابعة، خصوصاً بعد إطلاق الصواريخ من داخل المخيّم باتجاه المناطق المجاورة له، أو لجهة إجلاء عوائل المسلحين من داخله. كذلك فإنّ تواصلنا مع مسؤولي «فتح الإسلام» ما زال مستمراً، لكن من غير أن نتمكن من التوصل إلى نتيجة إيجابية معهم حول المواضيع المطروحة». وعن الاستفسارات التي طلبها الرئيس عمر كرامي من وفد الرابطة الذي زاره أول من أمس في بقاعصفرين، أشار الحاج إلى أنّ هذه «الاستفسارات أوصلناها إلى جماعة «فتح الإسلام»، وما زلنا بانتظار الردّ عليها».