صيدا ــ خالد الغربي
بين الرصاصة التي اغتالت معروف سعد في السادس والعشرين من شباط في عام 1975 بينما كان يقود تظاهرة الصيادين في صيدا، والخامس والعشرين من تموز 2002 (وفاة النائب الراحل مصطفى سعد بمرض عضال) مسيرة من التضحيات خطها هذا المناضل غير عابئ بوحشية الزمن عليه، شهدت خلالها العديد من التطورات والمتغيرات التي تغير فيها وجه لبنان، لكن «أبو معروف» (الذي كان يحب مناداته بهذا الاسم فقط خصوصاً باللكنة الصيداوية) بقي ثابتاً على مواقفه لا يتلوّن مع تبدل المواقع والمواقف ملتزماً بقسم قطعه منذ تسلم المسؤولية بعد والده، هو مع الوطن ضد القوى الطائفية، مع الناس والفقراء دون تحفظ، ومع فلسطين حتى عندما تحول بعض ثورييها الى برغماتيين يستجدون الرضا الإسرائيلي ـــــ الأميركي، وهو العروبي حتى الثمالة، مارس قناعاته لا ترفاً سياسياً أو من موقع المنظّر، وهو دائما ما ردد قول «السيف أصدق انباء من الكتب».
علاقته فوق العادية مع المقاومة الفلسطنية التي بكّر في الانخراط في صفوفها عندما التحق مع فدائييها في غور الأردن عام 1969، ولا سيما مع قائدها أبو عمار الذي طالما رأى أن سعد هو «ابن أخيه»، لم تمنعه من التصدي لما كان يراه «التمادي» الفلسطيني (قبل1982) في التدخل بشؤون الحركة الوطنية وهو خاض معركة مع تلك الممارسات قبل أسبوعين من الاجتياح الإسرائيلي بعدما اغتال الأمن الموحد الفلسطيني المسؤول الناصري رفيق بشاشة، لكن أبو عمار الذي حضر يومها الى صيدا مع محسن إبراهيم وقادة في الحركة الوطنية، وضع حدّاً لما كان يجري من اشتباكات في المدينة وقال ما معناه: يريدون فتنة لبنانية ـــــ فلسطينية وسأحيل بعض القادة الفلسطينيين المتآمرة على قضيتنا إلى المحكمة.
كرّمه رؤساء عرب بينهم الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد، والسوري حافظ الأسد الذي خاطب الحضور في حفل التكريم في القصر الرئاسي بأن عيون مصطفى سعد شاهد على همجية إسرائيل، لكن شهر العسل السوري تجاه سعد سينعكس بعد عامين الى فتور وأزمة أسهم فيها موقف سعد من حرب المخيمات وخلافه مع نائب الرئيس عبد الحليم خدام والمسؤول الأمني غازي كنعان الذي لم يخفِ «كرهه لهذا الرجل (أي سعد) العرفاتي» حتى إن خدام لم يتوانَ في أحد الاجتماعات عن اتهام سعد بأنه «ليس فاقد البصر بل فاقد البصيرة». ويذكر الإعلاميون في صيدا جيداً كيف أن أبو معروف توجّه يومها من دمشق الى مقبرة صيدا لزيارة والده الشهيد معروف سعد وابنته الشهيدة ناتاشا في دلالة فهم مغزاها جيداً الإعلاميون وكأن شيئاً سوف يُعدّ له. العلاقات غير الودية بين السوريين ومصطفى سعد ستدفع بالسوريين الى محاولة تحجيم نفوذ سعد وحصرها في صيدا.
في صيدا (في زمن قوى الأمر الواقع) حاول مصطفى تقديم نموذج مغاير لما كانت تشهده المناطق الوطنية حيث قتال الإخوة الإعداء. ويوم كانت تُحرق هذه المناطق، كانت صيدا لا تشهد الا القليل من التوترات الأمنية المحدودة إذا ما قيست بحجم وضعها آنذاك تحت المجهر من أكثر من جهاز مخابراتي عربي وغير عربي، وكانت تجربة المجلس السياسي لصيدا الذي أصر أبو معروف على إيكال رئاسته الى النائب نزيه البزري عملاً رائداً شارك فيه كل الطيف السياسي والحزبي في المدينة (حكومة المدينة).
يحفظ الصيداويون جيداً للراحل مواقفه التي جنّبت المدينة قطوعات وخضات أمنية كبيرة. ويحفظ مسيحيو شرقي صيدا وجزين الكثير من الوفاء له وهو الذي عمل على عودتهم الى منازلهم فور عودته من رحلة علاجه بعد الانفجار الذي استهدفه، وبادلوه محبتهم بإعطائهم أعلى نسبة أصوات انتخابية طيلة ثلاث دورات.
وفي كل ذلك بقي أبو معروف أميناً على نهج والده في النضال الاجتماعي والمطلبي، وفي انحيازه الى الطبقات المعدومة. وكان من الزعماء القليلين الذين لا يحتاج المواطنون لأخذ موعد لاستقبالهم، ويعرف الجنوبيون أنهم كان في استطاعتهم الدخول الى غرفة نومه في أي وقت كان.
لا شك في أن أموراً كثيرة تغيرت في الجدول اللبناني بعد خمس سنوات على رحيله، وبات الصديق عدواً وعلى طريق أن يتحول عدو الأمة الى صديق وربما حليف استراتيجي للبعض. ولو كان مصطفى سعد حياً فلربما اختار طريق الموت ثانية على أن يرى لبنانه على غير ما اشتهاه وناضل من أجله وطناً ديموقراطياً تسوده قيم العدالة والمساواة. لكنه بلا شك سيكون أول المنتشين بنصر المقاومة في عدوان تموز الأخير.