strong>ربى أبو عمو
هل تتذكرون فكتوريا وفاطمة؟ أم جاندارك والحاجة فاطمة؟
إنهما السيّدتان المسنتان اللتان بقيتا في المربع الأمني للضاحية الجنوبية خلال حرب تموز ووجدهما فريق عمل «الجزيرة» فأعدّ عنهما واحداً من أجمل التقارير الإعلامية. اكتسبتا آنذاك شهرة عربية... وهما المشهورتان في «حارة حريك» لأنهما من سكانها القدامى وبمثابة فاتحيها.
يتذكّر عباس وعمر وإيلي ويونس (جنود الجزيرة) ذلك الشريط جيداً، ويطلقون عليه شريط أم جاندارك التي بدت لهم امرأة قوية ومن الصعب نسيانهاانضمّ عباس ناصر إلى الريبورتاج مع فكتوريا وزوجها وجارتها الأقدم فاطمة والعصافير، لتشكّل هذه العناصر قصّة خبرية لها طعم مختلف. بدأ تقريره مستغرباً وجود ثلاثة أشخاص على مشارف المربع الأمني الذي استوطنته الطائرات الاسرائيلية وصواريخها.
بقيت فكتوريا وفاطمة متكلتين على الله. هذا ما قالته فكتوريا لابنتها جاندارك عبر الهاتف الذي أعارتها إياه «الجزيرة» في حينه «ما بطلع من بيتي إلاّ لفوق»، مطلقةً سبابتها الى الأعلى، كما عيناها اللتان تفاعلتا مع إصرارها ليكتمل المشهد. وبلهجة يغلب عليها الإيمان والثقة بالله، كرّرت عبر الهاتف عبارة «الله معنا، لا تخافي».
كيف بدأت القصّة؟
تدخّلت الصدفة أثناء قيام طاقم «الجزيرة» بتغطية زيارة وفد دولي إلى الضاحية الجنوبية خلال الأسبوع الأول للحرب. لمح المصوّر عمر امرأة عجوزاً تحمل كيساً أسود يحتوي على الخيار والطماطم. لفته وجودها في المربّع الأمني الذي تجري تصفيته بمن (وما) فيه، والأمر الأبرز تجسّد في الصليب «المرسوم» على يدها اليمنى. عجوز مسيحية في الضاحية! لحق بها وناداها، فعرف أنها رفضت مغادرة بيتها إلا أنها وافقت على أن يصوّرها فريق العمل.
لا يذكر عمر موقع البيت اليوم، فالركام الذي اخترقوه للوصول الى منزلها هو غيره قبل الحرب وغيره بعدها. كانت الحاجّة فاطمة وزوج فكتوريا في انتظارهم. في البيت صور للسيدة العذراء ومار شربل وقديسين آخرين، إضافة الى الإمام علي. العصافير الصفراء كانت تزقزق. ويتذكّر عباس أن فاطمة كانت «عاقلة» وقليلة الكلام، فيما كانت فكتوريا «قوية».
إلى هنا وتنتهي قصة «الجزيرة»، لكن قصة فكتوريا وفاطمة لم تنته بعد...
أين هما؟ هل ما زالتا على قيد الحياة؟ كيف أكملتا بقية الحرب؟
قررنا البحث عنهما في الحارة. أحمد شاب جامعي يقطن بالقرب من منزليهما ويعرف فكتوريا جيداً، اعتنت به حين كان طفلاً في مدرسة مار جرجس. التقاها بعد الحرب في الشارع. فاجأه أنها عرفته، بل وذكّرته أيضاً بحادثة في طفولته.
اجتزنا «الحلباوي» للحلويات وتابعنا الطريق قليلاً حتى وصلنا الى زاروب يؤدي إلى المنزل. طرقنا الباب عدة مرات، وإذا بامرأة تصرخ من الداخل تبيّن لاحقاً أنها عاملة تنظيف. في هذا الوقت أطل الجار يحيى من منزله المجاور، وأبلغنا الخبر الذي لم نتوقع سماعه. ماتت فاطمة منذ حوالى 4 أشهر، وانتقلت أم جاندارك إلى دار للعجزة بعد وفاة زوجها أيضاً. وعرفنا أن ابنتها جاندراك القاطنة في كندا جاءت إلى لبنان بعد الحرب، وأخذت والدتها الى دار العجزة للروم السريان في منطقة العطشانة.
عرفت فكتوريا (78 سنة) أننا سنزورها عند الظهر في الدار، فكان عليها أن تتناول غداءها باكراً قبل مجيئنا. كانت ترتدي قميصاً مزركشاً وتنّورة داكنة اللون، جلسنا معها في غرفة استقبال الضيوف ورحنا نتحدّث.
«أنا طلبت من ابنتي أن تأتي بي الى هنا، فقد أصبحت وحيدة وعاجزة عن الاعتناء بنفسي». لحظات وتعود الى بداية العدوان.
في اليوم الأول للحرب، سمعت القصف على الضاحية، إلا أنها لم تعرف أن الحرب قد بدأت إلا في اليوم الثالث حين خرجت من منزلها وشاهدت الدخان وبعض الدمار. تتابع «سقطت أربعة مبانٍ حول منزلي». تركت فاطمة بيتها وانتقلت للإقامة عند فكتوريا ليصبحوا ثلاثة في البيت. «لم يتركنا شباب الحزب، ولن أنكر جميلهم. كانوا يطمئنون إلينا ثلاث مرات خلال اليوم، يسألون عن حالنا وطلباتنا ويحاولون تأمين الطعام قدر استطاعتهم». تستطرد «السجائر والبن بالنسبة إليّ كانا أهم من الطعام».
تقول إن جميع الشباب أولادها، إذ كانت ترعى غالبيتهم في مدرسة «مار جرجس» و«إذا عدت الى الحارة الآن، فسيعرفني الجميع، بل وسيقبلون عليّ باندفاع».
حاول الشباب إقناعهم مراراً بترك المنطقة عارضين عليهم السكن في شقة مجهزة حتى لا يشعروا بالتهجير إلا أنهم فضلوا الموت في منزلهم، و«مثل ما الله بِريد». اعتمدوا على معلبات الطعام الجاهزة. تصرفوا في الداخل بمنأى عن الخارج، حتى لتشعر من حديثها بأنها كانت في كوكب آخر تقطنه رسوم متحركة قادرة على مجابهة الصواريخ. كانوا ينّظفون المنزل، ويطبخون مستعينين بما بقي من الحبوب عندهم، أو التي يأتي بها شباب الحزب. يتسامرون ويحوكون الصوف ويعتنون بالعصافير.
«كنا نقول أنا وفاطمة لبعضنا، مين بدو يبكي على التاني قبل». فكتوريا بكت على كثيرين، زوجها وفاطمة وجيرانها الذين توفي غالبيتهم. وقبل أربعة أيام من نهاية الحرب، سقط أبو جاندارك وغدا عاجزاً عن الحراك. هذه المرة طلبت من شباب الحزب إخراجها من المنطقة، فنقلوهما الى مستشفى في طرابلس. أما فاطمة فذهبت عند أخيها وبقيت السيدتان على تواصل من خلال الهاتف.
انتهت الحرب، وأصرّت فكتوريا على العودة الى بيتها، تاركة زوجها في المستشفى. إلا أن رغبتها القوية قوبلت بسقوطها فأصيبت في حوضها ويدها. وبعد العلاج، عادت الى بيتها كما فاطمة، وحين أرادت العودة الى طرابلس بعد بضعة أيام لتأتي بزوجها كان قد توفي.
بقيت لها فاطمة، بل بقيتا لبعضهما. وحيدتان في الدنيا. في أحد الأيام تشاجرتا. لماذا يا أم جاندرك؟ «كان طالع خلقي، لا أعلم لماذا تصرفت هكذا. قلت لفاطمة ألا تكلمني أبداً».
في اليوم الثاني، لم تزرها فاطمة. «ظننت أنها منزعجة مني، فلم أهتم. وصل النهار إلى نهايته، فطرقت بابها، ولم تجب. ناديت الناطور ليخلع الباب، ووجدناها مغمىً عليها، وماتت في المستشفى».
«شعرت بالذنب. ماتت وهي متضايقة مني. ترى هل ماتت بسببي؟».
لا تنتظر إجابة عن هذا السؤال، تعود سريعاً إلى حياتها في الدار حيث تبدو سعيدة مع أصدقائها الجدد. «قالت لي ابنتي ألا أحرم نفسي من شيء» تقول بسعادة.
كلمة أخيرة؟
في القدس حفرت فكتوريا الصليب على يدها «قبل أن يحتلّوها» وفي القدس أيضاً تريد أن تموت، هكذا تناجي ربها.