مهى زراقط
كانت الساعة تقترب من الواحدة بعد الظهر عندما وصلنا إلى بلدة محيبيب. شوارع القرية خالية إلا من ثلاث فتيات كنّ في طريقهن ربما إلى الدكان. نسألهن عن منزل الشهيد كامل جابر فيشرن إليه.
فقد استشهد المواطن كامل جابر برصاص قناصة في بيته، فيما قتلت والدته خديجة غنوي وأحرقت جثتها، ووضع عليها الإسرائيليون لافتة تقول إنها جثة مخرّب، كما يتناقل أبناء البلدة.
تقول واحدة من الفتيات: «صديقتنا إسراء أيضاً ابنة شهيد، هذه صورة والدها الشهيد خليل جابر» وتدلّ إلى صورة كبيرة تجمع شهداء المقاومة الذين سقطوا في مواجهات البلدة.
«هذا البابا» تقول إسراء (7 سنوات). نسألها عنه، فلا تجيب. نكرّر الاسئلة بأكثر من صيغة فتجيب بجمل متقطعة «بابا بطل».
هل قال لك شيئاً قبل أن يستشهد؟
«إيه، قال لنا أن لا نحزن عندما يستشهد، لأنه يضحّي من أجلنا ومن أجل أن نعود إلى القرية ونعيش فيها بسلام». تقول ابنة السبع سنوات هذه العبارات بلهجة اعتزاز بما قام به والدها الذي لم يفارقها «هو قال لي إن روحه ستبقى معنا». هذا ما تؤكده لها والدتها أيضاً عندما تحدثها وشقيقتيها زهراء (10 سنوات) وحوراء (4 سنوات) عن والدهن. تتذكر أنها تأخرت عن البيت، فتطلب المغادرة لكنها توافق على التقاط صورة لها...
نتجه إلى منزل الشهيد كامل جابر فتستقبلنا ابنته فاديا. العبارة الاولى التي تقولها: «الوالد استشهد على يديّ».
تضع كرسيين على شرفة البيت الذي تبدو عليه علامات إعادة الإعمار وتروح تحكي مشترطة عدم التقاط الصور لها «بعدني جايي من قطف الدخان».
بدأت المعركة في محيبيب في 2 آب، عند الساعة الرابعة إلا ربعاً فجراً تتذكر فاديا. يطلّ البيت على المكان الذي دخل منه الإسرائيليون فتحكي وهي تشير إلى الاتجاهات.
عند الساعة الرابعة والربع طلب والدها الدخول إلى الحمام. للحمام شباك يطل على الخارج، «يبدو أن الإسرائيليين لاحظوا حركة وعندما أراد الخروج أصابته القناصة».
سمعت فاديا ومن كان معها في البيت (شقيقتها وأمها وجدتها) الضربة، نادت والدها ثم دخلت تفتش عنه فوجدته مرمياً على الأرض. كان لا يزال حياً. «صرت أتلو ما أحفظه من آيات قرآنية وأدعو الله لكي يصبّرني ويتيح لي الصمود. جلست قربه أحدثه «احكِ معي... ردّ عليّ... قل لي عم يوجعك شي...». أما هو فكان يضغط على يدها ولا يقول شيئاً.
طلبت من أمها أن تأتي لها بفوط عساها توقف النزف «لكنها كانت حنفية مياه ونازلة». بقي الوالد على هذه الحال أكثر من ساعة ونصف إلى أن أسلم الروح. وضعته فاديا على فراش ونقلته إلى ممرّ المنزل الذي تعتبره آمناً.
كان القصف الذي تتعرّض له البلدة قوياً فقررت العائلة المغادرة «بعد أن فقدت الأمل». غطت فاديا جسد والدها، وغادرن المنزل. في البداية رفضت الجدة المغادرة لأنها لا تريد أن تترك ابنها «قبلت رجليها لتأتي معنا ولم توافق» تقول.
بعد المغادرة تضيع فاديا في التواريخ وحسابات الأيام. تتذكر أنها نزلت مع عدد من أبناء البلدة إلى ميس الجبل سيراً على الأقدام. بقوا تسعة أيام في جامع ميس الجبل «وكان شباب المقاومة يؤمنون لنا كل شيء. كنا نقرأ القرآن وندعو الله، مرت عليّ ليلة في ميس الجبل لم أترك نبياً ولا إماماً إلا ناجيته. قلت لنفسي ما رح يطلع الصبح علينا. عندما كانت الطائرة تنخفض قولي الجامع هبط علينا».
من ميس الجبل، انتقلوا مع من كان بقي في البلدتين إلى مرجعيون عن طريق الصليب الأحمر. «حوصرنا يومين هناك، ثم نزلنا إلى بيروت. بقينا ست ساعات حتى وصلنا إلى بلدة الكفير».
يوم أو يومان وانتهت الحرب. عادت العائلة إلى البلدة «لم نجد بيتاً، وكان شباب المقاومة قد أخلوا جثة أبي من المكان قبل أن ندخله».
هذا لا يعني أن فاديا خسرت والدها الذي يزورها في المنام كلّما احتاجت إلى مشورته.
«عندما بدأت بترميم البيت زارني وقال لي لا تغيّري تقسيمه. وبالفعل نصحني مهندسون من بلدة حولا ألا أغيّر فيه شيئاً لأنه كان مبنياً وفق الطريقة المناسبة».
كذلك زارها وأخبرها أنه حضر الحرب كلّها: «كان في التابوت، فتحه وكان مرتدياً الأبيض. قال لي أنا لم أمت، لا أزال حياً. كانت هذه الحرب مؤلمة وصعبة على العالم كلّها لكن المهم أننا حققنا النصر يا بيي».
ليس الوالد الشهيد من يقول ذلك لفاديا فحسب... تكرّر فاديا بتأثر: انتصرنا ولم يتقدّم الإسرائيليون في البلدة لأن المقاومة صدّتهم. بالتأكيد والدي سيكون فخوراً لأنه كان مقاوماً، عاد إلى البلدة عام 1994 بعدما تقاعد، صمد فيها ورفض التعامل مع العدو رغم كلّ محاولاتهم».