strong>حسن عليق
مع ما تعانيه قصور العدل من إهمال على مستوى بنائها وتجهيزاتها، تحاول «الأخبار» نقل صورة للمواطنين عن أوضاع المحاكم التي تهملها وزارة العدل. وبما أن التصوير ممنوع، حاول صحافيون نقل الصورة عبر الرسم المتّبع في معظم دول العالم، لكنهم مُنعوا وصودرت الرسوم. إلا أن ذلك لا يمنع من نقل «صورة» المحكمة

من القاعة المسماة «قاعة الخطى الضائعة» في قصر العدل ببيروت، ندخل قاعة محكمة الجزاء. زميلتان رسّامتان هما رشا حطيط وعناية حديب وأنا. القاعة فسيحة، وإنارتها خافتة. خلف قوس المحكمة عبارة، تصعب قراءتها، مكتوبة بالفسيفساء: «قل الحق وإن كان عليك». لا يوجد زجاج على بعض النوافذ، والسقف المستعار القديم مهشّم في بعض أجزائه. على يسار القوس تجلس فتاة أفريقية جميلة مكبّلة اليدين بأصفاد حديدية. يقف حولها ثلاثة من رجال قوى الأمن، يتحدّثون معها مبتسمين، ويتغامزون في ما بينهم. وعلى المقعد الأمامي المقابل للقوس، يجلس موقوف شاب مكبل اليدين، وبقربه والدته، التي قال عنها أحد رجال الأمن العام في المحكمة إنها استدانت 500 ألف ليرة لدفع كفالة ابنها.
يقترب منّا رجال الأمن في القاعة ويسألوننا عن سبب مجيئنا، نجيبهم. بدأوا يتحلّقون حول الزميلتَين، وينظرون إلى ما ترسمانه. كانت إحداهما تحاول نقل تعابير الفتاة الأفريقية رسماً. يقول أحد الأمنيين لزملائه: «جابتا». لاحظ أحدهم أنني أسجّل ملاحظات على دفتري، فيبادرني بالقول: شيل أي شي إلو علاقة بالأمن العام. رفضت، فهدّدني بمصادرة الدفتر. حدّثته عن القانون، وأننا في مكان هو تحت سلطة القضاء، وأنه لا سلطة لديه علي، فابتعد عني. اقترب مني عسكري آخر ليقول: قل لتلك الفتاة أن تمتنع عن رسم الموقوفة التي معي (يقصد الفتاة الأفريقية). أجبته بأنه لا سلطة له على أحد داخل المحكمة، و«السلطة هنا للقاضي»، فانصرف. بعد قليل يأتي موظف في المحكمة، يسأل عما إذا كنّا قد حصلنا على إذن للرسم. أجبناه بأن المحاكمة علنية وأنه لا يوجد نص قانوني يمنع ذلك، طالبين منه مراجعة القاضي. يغيب للحظات ويعود للقول: «أمَر الريّس بمصادرة الدفترين».
يوضع دفتران كانت الزميلتان قد بدأتا بالرسم عليهما على يسار القوس. في هذه الأثناء يبدأ 36 موقوفاً بالدخول إلى «قفص» الاتهام الذي يحوي مقعداً لا يتّسع لأكثر من ثلاثة أشخاص. كل اثنين منهم مكبّلان بـ«كلبجة» واحدة، إلا أصغرهم، وهو فتى لا يبدو أنه تجاوز الخامسة عشرة من عمره، كان مكبّل اليدين وحيداً. طلب منه رتيب في قوى الأمن أن يقفز من فوق سور القفص الخشبي الذي يرتفع نحو متر واحد. فعل الفتى، ورافقه عنصر أمني إلى خارج القاعة ليغيب عن النظر في قاعة «الخطى الضائعة».
بقي الموقوفون الـ36 واقفين، ورجال الدرك ببنادقهم الحربية يحدّقون بهم. بعض الأهالي الموجودين في المقاعد قبالة القوس يلوّحون بأوراق من شدة الحر. فالتمديدات الخاصة بنظام التبريد لم تعمل منذ زمن بعيد في قصر العدل.
قبل بدء الجلسات، أبلغنا القاضي المنفرد الجزائي هاني عبد المنعم الحجار، الذي كان مرتدياً زيّه الرسمي، أن التصوير ممنوع في قاعة المحكمة، وكذلك الرسم، وأن ذلك بحاجة لإذن من رئيس المحكمة، مشدّداً على ضرورة عدم إبراز ما يمكن أن يسيء لكرامة الموقوفين. أكّدنا له أن «الأخبار» لا تنشر صور موقوفين، وأن ما نريد نقله هو تعبيري، لا رسوم شخصية توضح هوية الموقوفين. فأعاد القول إن التصوير والرسم ممنوعان من دون إذن. بعدها، أصدر القاضي قراره بمصادرة صفحات الدفاتر التي رسمت الزميلتان عليها، وأبلغَنا أن من حقّنا حضور الجلسة ونقل ما نريده كتابة، لكن الرّسم ممنوع من دون إذن مسبق، «وهذه الجلسة غير مسموح الرسم فيها».
انتظرنا بضع دقائق لنعود إلى قاعة المحكمة حيث كانت الجلسات قد بدأت. 36 موقوفاً مكدّسون في «القفص». لم تفكّ أصفادهم خلال المحاكمة. كانوا متّجهين صوب قوس المحكمة، كأن قوة ما تضغط على ظهورهم وتدفع بهم نحو القوس. 25 منهم أجانب، بعضهم متّهم بدخول البلاد خلسة، والبعض الآخر بحيازة إقامات منتهية الصلاحية.
يبدأ الكاتب مناداتهم بأسمائهم. يسأل القاضي كلاً منهم بضعة أسئلة، ويسأل بعضهم سؤالاً وحيداً: خلسة؟ يجيب الموقوف: نعم. يقول القاضي: الحكم بعد الجلسات. أربعة فقط من الموقوفين استعانوا بمحامين، أجّلت محاكمتهم حتى الثاني من آب. أحدهم متهم بالتزوير، وآخر بتعاطي المخدرات وثالث بالتسبب بالوفاة بحادث سير والأخير بدخول البلاد خلسةً.
بعد الانتهاء من المحاكمة، خرج القاضي والكاتب والقاضي المتدرّج من باب على يسار القوس. عندها بدأ أحد عناصر الأمن بنهر الموقوفين: «يلّا، لبرّا». بدأ الموقوفون بالسير أزواجاً من باب وحيد يخرجهم من القفص. تباطأ أحدهم محاولاً التحدّث مع أحد أفراد عائلته. صرخ رجل أمن بصوت أعلى: «وله، قلنالك يلّا، خلّصنا بقا». خرج آخرهم.
من الباب ذاته الذي خرج منه القاضي، أطلّ فتى لا يبدو أن عمره يتجاوز الاثني عشر عاماً، لم يكن قد توقّف عن الإطلال برأسه على القاعة من الباب ذاته خلال الجلسة. تبيّن لاحقاً أنه ابن الموظف الذي بادر بسؤالنا قبل الجلسة عما إذا كنا قد طلبنا إذناً للرسم.
أمّا حصيلة جلسات المحاكمة التي لم تدم أكثر من ساعة واحدة، فكانت الحكم على العدد الأكبر من الأجانب بالحبس شهراً واحداً والغرامة بمئتي ألف ليرة والترحيل من لبنان لمن دخلوا البلاد خلسة، والاكتفاء بمدة توقيف من انتهت إقامتهم مع تغريم كل منهم مبلغ 100 ألف ليرة.
كذلك، حكم على أحد الموقوفين بتهمة تعاطي المخدرات بالحبس شهرين والغرامة 100 ألف ليرة. أمّا الموقوف المتهم بانتحال صفة «مستشار دولة رئيس الحكومة» وبتزوير بطاقة صادرة عن المقدم وسام الحسن حين كان رئيساً لسرية الحرس الحكومي، فقد حكم عليه بالحبس شهرين وبالغرامة 200 ألف ليرة. الغرامة نفسها حكم بها على شاب متهم ببيع أقراص مدمجة مقلّدة مع الاكتفاء بفترة توقيفه. وكان بين الموقوفين رجل اتهم بتوجيه السباب والشتائم لعدد من المواطنين وهو بحالة السكر الظاهر. خلال الجلسة، سأله القاضي عمّا جرى معه، فأنكر ما نسب إليه مدعياً أنه أوقف بعد خروجه من المسجد، وأنه لم يكن مخموراً: «أنا حاج، ولا أشرب الخمر، أعوذ بالله». اكتفى الحكم بمدة توقيفه وبتغريمه 140 ألف ليرة.