ربى أبو عمّو
عند مدخل بنت جبيل، لافتة كبيرة صفراء تعدّد شهداء هذه المدينة التي سجّل فيها المقاومون ملاحم بطولية، فحوّلتها الصواريخ الاسرائيلية إلى ركام.
نسير في الأحياء المهدّمة. فتاة شابة تقف على سطح أحد المنازل انه بيت مروى. حضورها من فوق وهي تحرّك يديها بلينٍ كان لافتاً، كأنه يبحث عن كاميرا لتؤوي المشهد.
حائطُ المنزل الخارجي كان مجوّفاًً بعد اختراق الصواريخ له. تطلّ منه امرأة متشحة بالسواد، تنشر الغسيل من على سطح بيتها ويحيط بها الدمار من كل جانب. هي لا ترى أحداً، نذرت نفسها فقط للتفاصيل المنزلية وللذكرى.
مشهد نشر الغسيل مع الدمار ليس جديداً، وكانت مروى لتضفي عليه عنصراً جذّاباً لو أنها وافقت على التقاط صورة لها، لكنها رفضت أن تصبح صورة إضافية في أرشيف الصحافيين. هي ليست شخصاً عادياًً، إذ تعرّف عن نفسها بخجل بأنها «خطيبة شهيد أسير».
لهذه الجملة وقع كبير في النفس. شابة في مقتبل العمر فقدت حبيبها فجأة، وتشعر بأنه لا يحق لها أن تتحدّث عنه. يحتاج الأمر إلى محاولات إقناع لتوافق لكن شرط عدم التقاط صورة.
بعدما اتفقنا، نزلت مروى عن السطح عبر سلّم خشبيٍّ إلى الفسحة الصغيرة خارج البيت، سحبت كرسيّاً أخضر اللون، وجلسنا يتوسطنا الكرز... رفضت مروى البوح باسم خطيبها، الا أنها ردّدته مرتين خلال كلامها من دون أن تنتبه: ساجد.
مروى من بنت جبيل، بقيت وعائلتها في البلدة نحو 18 يوماً قبل الهرب إلى تبنين، وأمضت عشرة أيام من دون طعام. قصفت المنازل المحيطة بهم، فما كان منهم إلا الاختباء في ملجأ في أسفل منزل جارهم المجاور لبيتهم. «كنت أنام، الا حين يشتدّ القصف»، تتابع «أصرّت عائلتي على عدم الفرار، حتى لا نحقّق للإسرائيليين رغبتهم في تهجير الأهالي من قراهم».
استطاعت مروى ومن معها الاستمرار في الصمود عشرة أيام معتمدين على قليل من الماء إذا توافر، إلا أن أخاها الصغير الذي أخضع لعدة عمليات لإصابته بمرض في القلب، اعتمد على أكل الخبز «المعطّن» للصمود، وهو ما مثّل الحد الأقصى للدلال.
لا تخلو عبارات مروى من الاندفاع والاعتزاز بالنصر. كأنها لم تهجَّر من بيتها وعاشت فترة طويلة بانتظار صاروخ الموت، وتحمّلت الجوع والعطش... بدا وجهها المرهق قويّاً. وبين الحين والآخر لم تنس أن تدعو للمقاومين بالمزيد من الانتصارات.
أربع كلمات تكرّرت في حديثها «أنا خطيبة شهيد أسير». فقط عند هذه الجملة تخور قواها قليللاً، وترتبك عيناها العسليتان كأنها تناديه، «أشعر بأنه ما زال على قيد الحياة، بالرغم من أن حزب الله لا ينعى شهيداً الا بعد التأكد من استشهاده، لكن شيئاً ما في داخلي يرفض تصديق هذا...». ومع ذلك، تضع حجاباً أسود وعباءة سوداء، ولا تعير شكلها الخارجي كبير اهتمام. تقوم مروى بدور الأخت الكبرى و«صبيّة البيت»، تعيش في الحزن والانتظار. تتوقّع أن تسمع الخبر الذي يتردّد صداه في قلبها.
قبل نحو ثلاثة أشهر من بدء العدوان الإسرائيلي، عرفت من «جو البيت» أن شاباً سيزورهم في وقت قريب، انتظرت الموعد المرتقب. عندما جاء شعرت بأنه سيكون من نصيبها.
جلسا معاًً عدّة مرات، وتم تحديد موعد الخطوبة. هل أحببتِه؟ تبتسم مروى، وترتجف ملامح وجهها مرّة أخرى. تتحدّى دموعها بالقوّة، فهي «خطيبة شهيد أسير». يجب أن تليق بصموده ونضاله ومقاومته وأخيراً استشهاده. هذا «اللقب» يمنعها من الإفصاح عن حبها له.
التقته مروى عشية بدء العدوان. وخلال الحرب، كان موقعه في القتال متقدّماً جداً، في بلدة مارون الراس. كانت تعرف أنه ما زال حياً إذ سألت أخاها عن أسماء الذين استشهدوا، فلم يذكر اسمه امامها. جاء خطيبها إلى بنت جبيل لتفقّدها وعائلتها ولم يجدهم. «جنّ جنونه» تقول والأسف باد على محياها. لاحقاً، سمعت خبر استشهاده وأسر جثمانه...
اليوم تسأل المقاومين ممن يزورونهم «هل من أخبار جديدة؟»، هم بدورهم يحاولون طمأنتها. تستطرد أنها غالباً ما تخجل من سؤالهم عنه، فهي ليست أكثر من خطيبته...
تفاخر مجدداً بالنصر، ترافقنا الى أسفل البيت بتردّد، هاربة من عدسة الكاميرا التي تلاحقها. تقول إنها تنتظر عودة ساجد ولن تخلع ثوب الحداد لحين رجوعه، ولو محمولاً على الأكتاف.