strong>يرسم عرض إخفاقات الجيش في حرب لبنان، إلى جانب التهديدات الاستراتيجية التي تواجه إسرائيل، صورة تشاؤمية، حيث سيكون لخيار التماثلية النووية مع إيران تداعيات قاسية حتى على ساحة المعركة التقليدية، ليصبح بالتالي اسم اللعبة الآن «البقاء» أو «الصمود»
تقف إسرائيل اليوم في أحد المفترقات المصيرية الأكثر حسماً. من نواحٍ كثيرة، يُعدّ وضعها اليوم أسوأ بكثير من عام 1967، عندما سيطر على الجميع خوف الزوال وحفر سكان تل أبيب الحفر الدفاعية بانتظار الحرب التي تقترب. وهو أسوأ أيضاً من عام 1973 الذي اقتربت فيه الهزيمة العسكرية بشكل مثير للقلق. وفي الحالتين نجونا، خلافاً للأسطورة الإسرائيلية، بصورة أساسية بفضل الكثير من الحظ والقيادة السيئة للعدو. في غياب حوار استراتيجي جوهري، وفي ظل تصورات استراتيجية وجيوسياسية مختلفة وغريبة أصحبت سائدة، يقترب من إسرائيل خطر لا تشخصه، وفي الواقع، هي تستعد منذ أعوام للحرب غير الصحيحة.
أحد الأمثلة على السطحيّة في الحوار السياسي هو تصوير الحرب الأخيرة على أنها أسفرت عن نجاحات مهمة، وهو أمر يقوم به أصحاب المصالح. بحسب هؤلاء المرافعين، الثمرة الرئيسية للحرب، هي القرار 1701. المعارضون ينكرون أهمية القرار بحجة أن حزب الله رمّم قدراته برغم كل شيء. إلا أن هذا القول، حتى لو كان صحيحاً، يقفز فوق النقطة الأساس: القرار 1701 هو فضيحة وطنية (إسرائيلية) لا سابق لها. فبعد سنوات من الصراع والتصميم الإسرائيلي ضد أي اقتراح لنشر قوات غريبة على حدودنا، سمحت إسرائيل ذات يوم لقوة مسلحة، لجيش غريب بكل ما للكلمة من معنى، بالحضور في جنوب لبنان مع تفويض قتالي يقول أن عليه حماية لبنان من إسرائيل. وخلافاً للمراقبين الذين عرفناهم في الماضي، القوة التي تحمي لبنان اليوم هي قوة قتالية. هكذا تخلت إسرائيل عن سيادتها وعن حقها بالعمل العسكري في لبنان إزاء التهديدات.
في عملية الخطف المقبلة لن تتمكن إسرائيل من شن عملية عسكرية قبل أن تطلب من ألمانيا وفرنسا، على سبيل المثال، سحب قواتهما من لبنان، أو تحمّل العواقب. إسرائيل خضعت للإملاءات كما لو كانت طرفاً خاسراً، وذهبت عشرات السنين، سدى، من الصراع الدولي على السيادة.
المعاني الاستراتيجية المؤلمة
في ضوء هذا الواقع، وهذا المستوى من الحوار الخادع، لا عجب في أن لا تحظى المعاني الاستراتيجية الحقيقية لحرب لبنان الثانية بالبحث والأهمية. لكن، بما أن أعداءنا يحلّلون بالتأكيد نتائج الحرب، ويستخلصون النتائج، ويعدون الخطط والنظريات القتالية وفقاً لذلك، فإن من واجبنا أن نسأل ماذا يمكن أن يتعلموا من الحرب الأخيرة، ونحاول أن نقدر أية سيناريوهات تخطر في أذهانهم.
ثمّة ثلاثة نتائج أساسية تظهر للعيان خلال البحث الاستراتيجي في الحرب:
أولاً، الكفاءة المنخفضة لسلاح البرّ الإسرائيلي: بالطبع، لم يكن أعداؤنا في حاجة إلى الحرب الأخيرة لكي يتوصلوا إلى هذا الاستنتاج، لأنهم يتابعون، من دون أسف طبعاً، التآكل المستمرّ للكفاءة القتالية للجيش الإسرائيلي منذ عدة أعوام، وخاصة في أعقاب الانتفاضتين الأخيرتين. على سبيل المثال، وفقاً لوسائل الإعلام الإسرائيلية، أجرى الجيش قبل فترة قصيرة التدريب اللوائي الأول منذ 6 سنوات، أي إن الجيش الإسرائيلي يشتغل اليوم على مستوى كتيبة، وليس لدى عدد كبير من الجنود والقادة الخبرة العملية بمستوى أداء أكثر تعقيداً. هل من عجب، حينئذ، أن يفشل الجيش عندما يُطلب منه أن يعمل على مستوى لواء أو فرقة؟ بالطبع، كفاءة قوات الاحتياط أقلّ من ذلك، وهي أصلاً آخذة بالتقلّص منذ
أعوام.
ثانياً، عدم حصانة سلاح المدرّعات: إحدى المزايا الاستراتيجية التي حافظت على أمن إسرائيل من اعتداءات عربية تقليدية هي سلاح المدرعات النوعي الذي تملكه. النماذج المتطوّرة للميركافا 3 و4، تعد منذ البدء بإنتاجها حصينة أمام أسلحة ضد الدروع العادية. هذا الاعتقاد استؤصل في حرب لبنان الثانية. مقاتلو حزب الله، الذين توجد بينهم مجموعات مدرّبة على استخدام هذه الأسلحة، استخدموا نماذج متطوّرة من صواريخ ضد الدروع روسية الصنع (كورنيت وماتيس)، وتمكنوا من إصابة عدد من الدبابات المتطورة. ثمة حديث في الجيش عن منظومات دفاعية جديدة للدبابات، إلا أنها لم تُجرب بعد في ظروف قتالية، وبالتالي فإن نجاعتها مشكوك فيها.
ثالثاً، عدم تلبية سلاح الجو لما كان متوقعاً منه: تهديد استراتيجي آخر برز فيه التفوق الإسرائيلي حتى الحرب الأخيرة هو سلاح الجو الإسرائيلي المتطور. ففي هذه الحرب تم تشغيل جزء مهم من قوة سلاح الجو، ورغم ذلك، وخلافاً لتوقعات رئيس الأركان «المُستقال» وآخرين كثر، فإنه لم يعجز فقط عن حسم المعركة، بل إنه حتى لم يقترب من تحقيق جزء معتدّ به من الوعود التي قدّمها. تدمير الصواريخ البعيدة المدى ينطوي على بعض العزاء فقط؛ فهذه المنظومة غير متبلورة، والمعلومات الاستخبارية حولها كانت ممتازة. وعلى عكس هذا النجاح، فشل سلاح الجو في معالجة قدرات الإطلاق الصاروخية باتجاه حيفا وحتى الخضيرة، التي بقيت قائمة حتى نهاية الحرب. لماذا فشل سلاح الجو في إزالة هذا التهديد؟ لأن حزب الله انتهج تكتيكات قديمة ومعروفة في ظل دونيته الجوية الواضحة، أي خنادق كبيرة محفورة بشكل جيد، تمويه، تغيير الأماكن، الصبر والإبداع. سلاح الجو بقي عديم الرد.
الخلاصة هي أن المشكلة الإستراتيجية لأعدائنا، وهي عدم وجود القدرة على مواجهة سلاحي الجو والمدرعات الإسرائيليين، تحولت إلى مشكلة تكتيكية. بمعنى أن كل ما ينبغي لهم فعله هو العمل على تحقيق بيئة مليئة بمجموعات ضد الدروع تستخدم نظرية قتالية تقوم على الاستهداف من أماكن خفية، وكذلك انتهاج الخدع التي بإمكانها أن تجهض قدرات سلاح الجو. على سبيل المثال، الالتصاق السريع بالبلدات الإسرائيلية وبقوات الجيش، وبالتالي منع سلاح الجو من تفعيل كامل قوته. ومن الجدير أن نذكر أن المبادر إلى الحرب يملك أرجحية واضحة في شل سلاح جو الطرف الثاني. وبما أن سلاح الجو سيخصّص الأيام الأولى من القتال لتحقيق التفوق الجوي وليس لمساعدة الجهود البرية، فإن صد القوات البرية الأساسية للعدو سيكون على عاتق قوات البر الإسرائيلية. وما يعنيه ذلك في دولة كإسرائيل، لا تملك احتياطات برية استراتيجية، دلالات ذات طابع مصيري: في غياب قوة برية كثيفة ومدربة، فإن أجزاءً مهمة من إسرائيل يمكن أن تصبح محتلة قبل أن تحقق التفوق الجوي.
وهكذا، إذا كانت جيوش العدو امتنعت في الماضي حتى عن عملية حربية محدودة انطلاقاً من الاعتقاد بأنها لا تملك حلاً لمشكلة المدرعات وسلاح الجو الإسرائيليين، فإن الوضع قد تغيّر الآن من النقيض إلى النقيض، مع إثبات إمكان تدمير المدرعات بواسطة صواريخ مضادة للدروع مطوّرة، فيما قدرة سلاح الجو على الحسم بعيدة. النتيجة هي أن العدو يشخص، للمرة الأولى من 34 عاماً، إمكان تحقيق إنجازات جوهرية في مقابل دولة إسرائيل في حرب تقليدية.
الحساب البائس للردع النووي
الردع الأخير الذي بقي في أيدي إسرائيل هو السلاح النووي. وهنا، بالطبع، تدخل إلى الصورة القنبلة النووية الإيرانية. يخشى الكثيرون من احتمال إلقاء القنبلة الإيرانية على إسرائيل في خطوة هجومية. إلا أن ما تعنيه خطوة كهذه أمر واضح: الرد سيكون إبادة إيران بالسلاح النووي الإسرائيلي. ولأن الإيرانيين يطمحون إلى إبادة إسرائيل، لا أنفسهم، ثمة احتمال منخفض لهذا لسيناريو. المعنى الأكثر عمقاً لحصول إيران على قدرات نووية لم يخضع للدراسة الوافية في المنظومات الأمنية الإسرائيلية.
ينبغي دراسة المشكلة، كما هي العادة في الشؤون النووية، في بعدها الردعي. الوظيفة الاستراتيجية للسلاح النووي، بوصفه سلاحاً شمولياً، هي منع الهجوم أو الإبادة أكثر منها الإبادة الفعلية. إنه تهديد متطرف، يغيّر أصل وجوده التوازن الاستراتيجي. حالياً، في ظل عدم التماثل النووي، يعلم العدو أن إسرائيل قادرة على إلقاء قنبلة نووية في مقابل أي إنجازات يمكن أن ينجزها (في الحرب معها).
من ناحية العدو، تقف إسرائيل، في ظل عدم التماثلية، أمام معضلة صعبة: الخسارة في الحرب أو إلقاء قنبلة نووية.
إضافة إلى ذلك، كلما نجح العدو أكثر في ساحة المعركة، تزداد احتمالات استخدام إسرائيل لـ«سلاح يوم الدين». لذلك، عندما يكون هناك عدم تماثلية نووية، فإن السلاح النووي يؤدي إلى جمود شن هجومي تقليدي.
في مقابل ذلك، في حالة التبادلية النووية، تتغيّر المعادلة جوهرياً. فإذا كانت إسرائيل تعلم أن الرد على استخدامها النووي سيكون إطلاق إيران صواريخ نووية عليها، فإن الحسابات ستختلف، وتصبح كالتالي: الخسارة في حرب تقليدية أو التعرّض لإبادة نووية (بعد أن تكون قد استخدمت سلاحها النووي).
في هذه الحالة، فإن احتمال أن تُرجّح إسرائيل تعرضها للإبادة على الخسارة، فيما الأخيرة تحفظ الأمل بالبقاء، ليس احتمالاً كبيراً. أي إن هناك احتمالاً لا بأس به لامتناع إسرائيل عن استخدام سلاحها النووي، حتى في ظل خسارة ميدانية. بعبارة أخرى، وهذه نقطة مصيرية، فإن معنى الردع النووي التبادلي هو العودة إلى ساحة القتال التقليدي، وبصورة عامة عبر المبعوثين. هكذا تصرفت كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي في فترة الحرب الباردة، وهكذا تعرَّض كلاهما لخسارات عسكرية قاسية (في فيتنام وأفغانستان).
السوريون هم مبعوث طوعي للإيرانيين. وفي ظل المظلة النووية الإيرانية، وعلى ضوء القدرات القليلة للجيش الإسرائيلي والتسليح الروسي المتطوّر الذي اشترته سوريا، يمكن للعالم العربي أن يسترجع طموحه بتحقيق انتصار تقليدي على إسرائيل.

(غداً حلقة ثانية وأخيرة)




العنوان الأصلي عن جبهاتٍ وحرب

الكاتب: ران باراتس
(16/3/2007)

المصدر: موقع أوميدياه




اجزاء ملف "التحوّلات الاستراتيجيّة على ضوء نتائج الحرب على لبنان":
الجزء الأول | الجزء الثاني