نقولا ناصيف
في الغالب يضع قائد الجيش، أيّ قائد للجيش، استقالته في تصرّف الرئيس الجديد للجمهورية، عندما يزوره لتهنئته بانتخابه. كذلك يفعل السفراء والموظفون الكبار من خارج الملاك لاقتران تعيينهم بولاية الرئيس المنطوية ولايته، ولأنه المعني بهذا التعيين.
وفي الغالب أيضاً، يقبل الرئيس المنتخب استقالة القائد ما لم يقرّر مجلس وزراء أولى حكومات العهد الجديد تمديد بقائه في المنصب. كانت هذه حال معظم قادة الجيش ما خلا استثناءات محدودة. فالرئيس شارل حلو مدّد للعماد عادل شهاب سنة في قيادة الجيش عام 1965 بعد انقضاء عهد الرئيس فؤاد شهاب، والرئيس سليمان فرنجية أبقى العماد جان نجيم في قيادة الجيش حتى مقتله بسقوط طوافته عام 1971، وكان قد عُيّن قبل سنة ونصف في منصبه في السنة الأخيرة من ولاية الرئيس حلو إثر إقالة العماد إميل بستاني. وما خلا العمادين اسكندر غانم عام 1975 وابراهيم طنوس عام 1984 اللذين دفعا ثمن الخلاف السياسي، أنهى العمادان حنا سعيد وفيكتور خوري الولاية بهدوء، ثم كان انتقال العماد ميشال عون من قيادة الجيش إلى رئاسة الحكومة العسكرية عام 1988 فلزم الموقعين ورفض قرار إعفائه عام 1989، إلى أن أطيح بالقوة. وفي الحقبة السورية استعيد تمديد التعيين: مدّدت دمشق للعماد إميل لحود عام 1995 سنة خدمته العسكرية الفعلية ثلاث سنوات إسوة بتمديدها ولاية الرئيس الياس الهراوي مدة مماثلة كي يخلف الأول الثاني في رئاسة الجمهورية. واستمر العماد ميشال سليمان في قيادة الجيش من عام 1998 في ولاية طويلة استمرت تسع سنوات شأن ولاية لحود، لكن دون تلاعب بسنّ الخدمة الفعلية.
وفي وسع سليمان الاستمرار على رأس قيادة الجيش سنة عاشرة هي سنة 2008، عندما يُحال عندئذ قانونياً على التقاعد. وسيكون القائد الوحيد الذي يلي اللواء فؤاد شهاب إذ بقي الأخير قائداً للجيش 13 عاماً (1945 ـــ 1958). لكن القائد الحالي للجيش، في كلام منسوب إليه قبل يومين، لوّح بالاستقالة من منصبه إذا تألفت حكومتان وحصل الفراغ الدستوري، كي لا يتحمّل ويحمّل المؤسسة العسكرية وزر خلافات السياسيين وانقساماتهم.
ليس سليمان أول قادة الجيش المسيّسين. أولهم كان فؤاد شهاب، وأكثرهم حدّة ميشال عون عندما رفض جهاراً في 18 أيلول 1988 انتخابات رئاسية بإرادة أميركية ـــــ سورية حملها من دمشق إلى بيروت الموفد الأميركي الخاص السفير ريتشارد مورفي، ثم عندما انقلب على رئيس الجمهورية أمين الجميل في 21 أيلول حين عاد الأخير من دمشق لتسويق ترشيح النائب مخايل ضاهر. بعده لحود الذي طرح معادلة عقيدة جيش يكون وطنياً وغير فئوي عندما يميّز الشقيق من العدو ويرعى المصالح العسكرية والأمنية السورية في لبنان، ويتسلّح من الجيش السوري، ويحمي الطبقة السياسية الموالية لدمشق. وتحت وطأة نفوذ سوريا داخل الجيش اللبناني، ميّز لحود دور الجيش وسمعته عن الطبقة السياسية الموالية، وجعله أكثر التصاقاً بالجيش السوري، وعمل على التشهير بالطبقة السياسية تلك بغية تبرير وصوله إلى الرئاسة، وكي يميز أيضاً وأيضاً بين طبقة سياسية فاسدة وفريق عسكري نظيف، وكان الفريقان يدينان بولاء مطلق لسوريا التي لم تكن تميّز بينهما إلا في معرض تحديد دور هذا أو ذاك ووظيفته في رعاية المصالح السورية في لبنان. وخلافاً لعون ولحود اللذين قادا الجيش في الحقبة السورية، وإن بتفاوت كبير في علاقة كل منهما بدمشق، خبَر سليمان موقعه في ظلّ سوريا في لبنان وبعد خروجها منه. وعلى طرف نقيض من قوى الأمن الداخلي التي وضعت نفسها بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري في عداء سياسي وشخصي مع دمشق شأن سياسيي تيار المستقبل، ترك قائد الجيش مسافة في العلاقة بسوريا. أوقف دورات تدريب الضباط هناك وتبادل المعلومات الأمنية، وأبقى لجان الاتصال والتنسيق الحدودية، وتخلّى عن طلب ذخائر لعدد وافر من الأسلحة والآليات كان قد حصل عليها في مرحلة لحود، وراقب الحدود لمنع تهريب السلاح.
وقد لا يكون إذاعة سرّ القول إن سليمان، بعد تجديد ولاية الرئيس السوري بشار الأسد قبل أسابيع، اتصل به مهنئاً ورغب إليه أن يضغط على «فتح الانتفاضة» و«الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ـــــ القيادة العامة» كي تجمّدا تعزيزاتهما المسلحة في أنفاق الناعمة وقوسايا والتي غايتها إشغال الجيش عن حربه ضد «فتح الإسلام».
وكما امتحن عون جيشه بكلفة باهظة في معركة سوق الغرب في آب 1989 ضد الجيش السوري وميليشيا النائب وليد جنبلاط وفصائل فلسطينية، وفي مواجهات أخرى مع ميليشيا القوات اللبنانية والجيش السوري عامي 1989 و1990، يمتحن سليمان جيشه منذ 20 أيار الفائت في مخيم نهر البارد بكلفة مماثلة. إلا أنها المرة الأولى التي يجعل فيها قائد للجيش تهديده بالاستقالة سيفاً ذا حدين: إنه ينذر السياسيين بضرورة الاتفاق على مرشح توافقي للرئاسة قبل انقضاء المهلة الدستورية تفادياً لاشتباك حكومتين ووقوع البلاد في فراغ دستوري، وفي الوقت نفسه يضع الجيش في دائرة الخطر إذ يجعله بلا قائد، من غير أن يكون في وسع أيّ من الحكومتين ـــــ وهو ما يدركه سليمان ـــــ تعيين قائد جديد للجيش الذي يصبح حينذاك معرّضاً للانقسام وتوزّع الولاء بين الحكومتين، على غرار تجربتي الجيش عامي 1988 و1990: بين جيش العماد عون وجيش اللواء سامي الخطيب، ثم جيش عون وجيش لحود.
ومع أن استقالة قائد للجيش ظاهرة استثنائية، عرفت المؤسسة العسكرية سابقتها مع اللواء شهاب عام 1955، ولم تعش حينذاك غير ساعات، عرفت المؤسسة العسكرية إقالات قادة للجيش كبستاني وغانم وطنوس. على أن مغزى ما لوّح به سليمان يكمن في الآتي:
1 ـــ تحييده الجيش في النزاع الناشب بين حكومة الرئيس فؤاد السنيورة والمعارضة، وجعله إياه سلطة ثالثة مستقلة بينهما تستمد قراراتها من قياسها هي لمعايير المصلحة الوطنية في معزل عن هذا الفريق أو ذاك. لم يقمع تظاهرة المليون في آذار 2005، ولم يخلع الاعتصام المفتوح في كانون الأول 2006. لم يقف على الحياد في حرب حزب الله وإسرائيل في تموز 2006، ولم يواجهه بعد ذلك في الجنوب مع انتشار الجنود اللبنانيين والدوليين تنفيذاً للقرار 1701. لم ينتظر كذلك قرارات حكومة السنيورة كي يهاجم «فتح الإسلام» وهو الذي يأتمر قانوناً بأوامر مجلس الوزراء، ولم يسلّم بخط أحمر قال به حزب الله في المخيمات الفلسطينية.
2 ـــــ بتأكيده إجراء انتخابات رئاسية في ظل توافق وطني يحاول أن يجعل من الجيش مؤسسة ساهرة على التوازن السياسي الداخلي والاحتكام إلى الدستور والمؤسسات وفكرة التوافق، مستعيراً ـــــ على الطريقة اللبنانية ـــــ التجربة التركية لدور الجيش، إذ تجعله يحمي المرتكزات الدستورية للدولة.
3 ـــــ لأن الجيش لا يستطيع أن يكون بديلاً من السياسيين، ولن يكون في وسعه حماية انتخابات رئاسية لا توافق وطنياً عليها، فإن أي فوضى محتملة في النظام، في ظل فراغ دستوري، لن تبقيه في منأى عن التأثر بنتائجها.