strong>منهال الأمين
جواد، أبو جعفر، جهاد، كربلا، حسن... خمسة مقاومين كانوا في عيتا الشعب يروون لـ«الأخبار» ما يستطيعون البوح به من يومياتهم في البلدة التي تحوّلت إلى أسطورة في المقاومة والصمود بعدما سطّر فيها الشباب ملاحم بطولية جعلتها لا تغيب عن وسائل الإعلام مدى 33 يوماً من الحرب. في عيتا، فوجئ الشباب بـ«الجـيـش الـذي لا يـقـهـر»... انتظروا من الإسرائيليين ردود فعل قتالية في أكثر من موقف لكنهم كانوا غالباً ما يفضلون الانكفاء والهرب... «نالوا أوسمة لأنهم استطاعوا العودة سالمين لا لأي شيء آخر»

منذ 12 تموز بدأت المواجهات في عيتا الشعب. أول الغيث كان تقدّم دبابة ميركافا عند الثانية عشرة والنصف نحو نقطة للمقاومة قرب موقع الراهب الصهيوني. اخترقت الدبابة الحدود فجاءها الردّ قاسياً. عبوة ناسفة قلبتها رأساً على عقب، فقتل طاقمها المؤلف من أربعة جنود. تلى ذلك قصف بالهاون للنقطة التي دخلها بعض الجنود المشاة فوقعت بينهم إصابات مؤكدة. جهد العدو لسحب «أشلاء» الدبابة والجنود فلم يفلح. عمد إلى قصف أطراف عيتا الشعب ومركز لـ«حزب الله» داخل البلدة.
استمرت المواجهات على محور الراهب طوال أسبوع على الأقل، حيث حاول العدو سحب الميركافا المدمرة وجثث جنوده المحترقة (بقي الجنود، قتلى وجرحى، في أرض المعركة أسبوعاً على الأقل). ترافق ذلك مع قصف ضواحي البلدة. بقي الوضع على هذه الحال حتى يومي الهدنة في 31 تموز و1 آب. استمرت الهدنة المزعومة ثمانياً وأربعين ساعة كانت من أصعب الساعات على عيتا.
فجر الأربعاء 2 آب، بدأ التقدّم الاسرائيلي من جبل أبو طويل الى الغرب من عيتا، في اتجاه مثلث القوزح. تمركزت مجموعة من المشاة ليلاً عند مدرسة المعوقين شمال غرب البلدة. المقاومة كانت قد أعدّّت خطة دفاعية لكل النواحي. تنبه المقاومون لتحركات العدو. وكما خططت المقاومة فإن العدو في أكثر الأحيان كان يستدرج إلى «فكي كماشة» فيتم الانقضاض عليه. ضربت مجموعة المشاة. فحوّل العدو هجومه نحو الحارة الغربية. اشتبك المقاومون مع القوات المتقدمة عند نقطة الحدب. استمرت المواجهات منذ السادسة والنصف صباحاً حتى الثانية والنصف ظهراً. ولم تتعدّ المسافة في بعض الأحيان ثلاثين متراً بين الطرفين. كان الجنود الإسرائيليون يعمدون إلى التجمع والتمركز في نقاط، ظنوا أنها حصينة. وعلى رغم أن عديدهم كان كبيراً في هذا التقدم (50ـــــ60 عنصراً) إلا أنهم فروا من المواجهة والتجأوا إلى أحد الكراجات في تلك المنطقة. أحد المقاومين عاجلهم بقذيفة صاروخية ما أدى إلى وقوع عدد من الإصابات بينهم، فانكفأت القوة المعادية.
فجر اليوم التالي حاول الصهاينة التقدم في اتجاه الحارة القديمة. بدأت العملية كالمعتاد بقصف تمهيدي تبعه توغل لمجموعات من المشاة بين المنازل فلم يتمكنوا إلا من السيطرة على منزل واحد رغم أن هناك حماية لهم من موقع رامية.
ومع ساعات الصباح الأولى، كان صوت وقع أقدام الجنود مسموعاً بوضوح على طريق الإسفلت، فكمن لهم أحد المقاومين وأمطرهم بالرصاص من مسافة قريبة. سُمع صراخهم يعلو في المكان. انسحبواودخلوا أحد المنازل (منزل أبو قاسم دقدوق في الحارة الغربية) وأقفلوا الباب عليهم. امتدّت الاشتباكات حتى الظهر. وحوصرت المجموعة الصهيونية داخل المنزل، وتبيّن أن بين أفرادها قائد كتيبة مظليين عمل العدو المستحيل لإنقاذه فلجأ بداية إلى قصف المنطقة بالقذائف الدخانية، ثم تحركت جرافة من خلة وردة ـــــ بركة الدرجات إلى مدخل الحارة الغربية، تبعتها آلية من نوع «أش زيريت» (ناقلة جند عادة ما تستخدم لنقل قوات خاصة). تصدّى مقاوم للجرافة بقذيفة صاروخية (على بعد 40 متراً فقط) فاقتُلع برجها وقُتل سائقها. انسحب الجنود تحت غطاء مدفعي كثيف وتحليق لطائرة الاستطلاع التي هي عادة في خدمة قائد الكتيبة وتحت إمرته. وعلى رغم ذلك فإن المقاومين نالوا منهم حتى إن أحدهم لاحق الـ«أش زيريت» وهي تهرب لكنه لم يتمكن من إصابتها لأنها هبطت في إحدى الطرق الفرعية.
سلكت قوات العدو المتقدمة عدة معابر للتوغل في داخل البلدة أو القرى المجاورة إلا أن محاولاتها كانت تبوء بالفشل:
  • من تلة الخزان ـــــ جبل أبو لبن: الاستيلاء على المرتفعات للسيطرة على 60 أو 70% من البلدة وتطويقها من جهات عدة.

  • من معبر خلة وردة للسيطرة على المنطقة المحيطة بعيتا.

  • معبر وادي سواده للنفاذ إلى البلدة عبر ما يسمى بوابة الانكليز.

  • وصلت مجموعات صهيونية إلى ملعب الدواوير حيث دمر المقاومون دبابة وجرافة وسيطر الجنود المشاة على منطقة الخرزة وتمركزوا في البيوت المحمية بالموانع الطبيعية وصاروا يقنصون كل ما يتحرك داخل البلدة.
    بتقدّمهم من وادي «سواده» صعد الجنود إلى أبو لبن (من منطقة المعمور).. استقرت المجموعات في «الحدب». كان الهدف السيطرة على كل المعابر بالرؤية والنار. بعد قصف تمهيدي بالهاون تقدمت مجموعة مقاومة للانقضاض على القوة المتمركزة بهدف فك حصارها المفترض عن البلدة ولكي لا تشل تحرك الشباب. بضعة مقاومين في مواجهة عشرات الجنود وبما تيسر من سلاح، اندلعت الاشتباكات وامتدت من الثالثة عصراً حتى الثالثة فجراً على امتداد الحي بأكمله ثم انحصرت المواجهات في 3 بيوت فقط ودارت من غرفة إلى غرفة. أحد المقاومين (الشهيد يونس يعقوب سرور) استهدف الجنود في أحد تلك المنازل بـ5 قذائف B7 أصابتهم إصابات مباشرة. بعد ذلك تدخلت الطائرات الحربية والمروحية وقصفت المنطقة بمختلف أنواع الأسلحة. حطت في المكان مروحية لإجلاء الإصابات.
    عند السابعة صباحاً، عمّ المكان ضباب كثيف، فاستغل الصهاينة ذلك للانسحاب في اتجاه منطقة شميس والدواوير ودخلوا فيلا «علي رضا». رُصدت المجموعة داخل الفيلا فتعامل معها المقاومون بالأسلحة المباشرة مستهدفين الغرف التي يتجمع فيها الجنود. هرعت آلية لسحب من بقي من الجنود. صاروخ مباشر أصابها وتكفلت قذائف الهاون بالهاربين.
    في اليوم نفسه تقدمت مجموعات من المشاة الصهاينة في اتجاه مدرسة المعوقين، من جهة جبل «أبو طويل» (شمال غرب عيتا). طلبنا من أحد الإخوان الرماية، يقول أبو حسن، بعدما تجمع الجنود بأعداد كبيرة داخل المدرسة. وهكذا كان. تساقطت الصواريخ بين الجنود. صراخ جرحاهم كان مسموعاً بوضوح، فيما لاذ الباقون بالهرب.
    في 4 آب حاول العدو التقدم بمجموعاته من منطقة تسمى «الرجم»بين عيتا ودبل. استقر الجنود المتسللون في قصر كبير لكن المقاومة رصدتهم. استهدفوا من الأمام ومن الخلف بصواريخ مباشرة. فهاموا على وجوههم، ونزل أكثر من 100 جندي مكشوفين على الطريق العام فلجأوا إلى كراج. هنا حدثت المفاجأة، إذ بدأت تتساقط على الجنود قذائف من عيار155ملم مصدرها المواقع الإسرائيلية التي افترضت أن المجموعات المتسللة بعد أن انكشف أمرها انسحبت الى الخلف ومن الطبيعي أن تبادر المدفعية لقصف المنطقة كتغطية لانسحاب هذه المجموعات، إلا أن تعرّض تلك المجموعات لنيران المقاومة من جميع الجهات أربك تحركها حتى إنهم صاروا يتجنبون الدخول إلى المنازل لأنها كانت تهدم فوق رؤوسهم.
    بعد أيام (نحو 8 آب) ومع ساعات الصباح الأولى كان فصيل للعدو يختبئ في مرتفع «أبو طويل». كانوا «مكومين» بعض على بعض، يصفهم جواد: من خلال الرصد الدقيق استطاع الشباب كشف وجود «قبضة» (وهي القاذف الذي يطلق به صاروخ ضد الدروع) مع القوة المعادية. أعطي الأمر بإطلاق صاروخ مباشر. سقط في نقطة الوسط بين الجنود. علا صراخهم وبلغ البلدة على بعد المسافة. هرع فصيل مرافق للقوة المستهدفة (كان على مقربة من المكان) لإسعاف الجرحى. فأحصيت 17إصابة (بين قتيل وجريح). كان فريق الإسعاف ينقل الجرحى إلى طابق سفلي في أحد المنازل. المكان مكشوف للمقاومين. استهدف أحدهم «المستوصف الميداني» فأصاب الطبيب إصابة مباشرة. وجد في المكان بعد الحرب أشلاء مبعثرة. وكان بنتيجة الهجوم الصاعق انكفاء العدو عن مرتفع «أبو طويل». يؤكد قيادي في المقاومة كان مشرفاً على عمليات عيتا الشعب أن الإسرائيلي كان كلما تلقى درساً قاسياً في منطقة ما ينسحب منها ولا يعيد الكرة نهائياً. ويلجأ بعد كل جولة إلى القصف الجنوني بالمدفعية وإغارة الطائرات الحربية والمروحية.
    في 12 آب، قرّر العدو تنفيذ هجوم واسع تتقدمه الجرافات الضخمة. بدأ الهجوم من منطقة الجبانة (قرب خلة وردة) ودفش حمزة حيث تقدمت 4 جرافات ترافقها مجموعات كبيرة من المشاة تجاه الأحياء السكنية وعملت على هدم المنازل وجرفها. فوجئ الإسرائيلي بنيران كثيفة تباغته من الخلف من محيط موقع الراهب على الحدود. سقطت 14 قذيفة مدفعية على الجرافات والمشاة ودبّت الفوضى وسمع صراخ الجنود يستغيثون كالأطفال. كانت الأمور مفتوحة على كل الاحتمالات: أسر، قتل... لا شيء صعباً أمام المقاومين بحسب ما يروي جهاد.
    أثناء عملية الهدم والجرف التي كانت تقوم بها الجرافات، كان المقاومون لا يبرحون نقاطهم وفي بعض الحالات كانت الجرافة تدك منزلاً يتمركز فيه الشباب فينتقلون إلى منزل آخر وهم يتصدون للآليات المتقدمة. ويروي «جهاد» عن شجاعة المقاومين أن الجرافة كانت أثناء سيرها تحافظ على ساتر يتكوّم أمامها من التراب وأشلاء المنازل المدمرة ما يشكل لها حماية من نيران المقاومة. وبينما الجرافة تعمل تسلق أحد المقاومين «الساتر المتحرك» وأطلق على برج الجرافة قذيفة «ب 7» إلا أن تصفيحها حال دون تحقيق إصابة ما. مقاوم آخر أطلق صاروخاً مباشراً من على إحدى الشرفات على جرافة لا تبعد عنه سوى أمتار معدودة. في هذا التقدم دمرت للعدو جرافتان ودبابة تفجرت الذخائر الموجودة بداخلها فشوهدت تنفجر. على أثر ذلك استبدل العدو سرية موقع الراهب نظراً لانهيار معنويات الجنود الذين في الموقع والذين شاهدوا بأم أعينهم كيف احترق زملاؤهم وتناثرت أشلاؤهم في المكان.
    في 13 آب تابع العدو التقدم بالجرافات ظناً منه أنه قضى على معظم الشباب في البلدة. في هذا اليوم دمر المقاومون جرافة (D11). كان هدف العدو ينحصر كما تبيّن في إنشاء موقع ورفع العلم الإسرائيلي للإيحاء للرأي العام بأنه تمت له السيطرة على عيتا الشعب. ويعلق «جواد» أن الجيش الإسرائيلي اضطر لرفع العلم إلى جرف حي بأكمله ــــ هذه مهزلة ـــــ يقول جواد: «فبعد أن كانت الجرافات تمهد الطرق للميركافا صارت مسخرة لرفع الأعلام واستثمار ذلك إعلامياً وشعبياً».
    يرى «أبو حسن» أن الحرب كانت تجربة جديدة و«جميلة» عرفتنا أكثر على حقيقة الإسرائيلي وكيف أنه جندي فاشل لا يلمّ بأدنى المعايير العسكرية حتى إنه «كفر» بكل مفاهيم العقيدة التي تربى عليها في الجيش الإسرائيلي وأبسطها «لا تترك الرفيق في ساحة القتال».. لأنه ترك الرفيق، قتيلاً كان أو جريحاً، ولاذ بالهرب طلباً للنجاة... وللتنويه العسكري إن وجد، لأنه خرج سالماً من بين أيدي مقاتلي حزب الله.

    حدث في 27 تموز
    جدّدت الإدارة الأميركية موقفها الرافض لوقف العدوان الإسرائيلي. ورأت أن هذه الحرب «فرصة» لإحلال السلام في الشرق الأوسط، ورأى الموفد الدولي تيري رود لارسن من روما أن خطاب الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله عن الذهاب إلى ما بعد حيفا هو الذي ينحو بالصراع إلى هذا المستوى (أكثر اتساعاً) وقال إنه ليس واثقاً من أن الأمور «وصلت إلى ذروتها بعد!».
    ميدانياً، قرّر المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر تجنيد عشرات الآلاف من الاحتياط، في ظل قرار يقضي بعدم توسيع العمليات البرية على الأراضي اللبنانية، بمثابة رسالة سياسية موجهة إلى سوريا بالدرجة الأولى على حد تعبير أكثر من معلق إسرائيلي. ووسّعت إسرائيل عملياتها الجوية، باتجاه البقاع الغربي وإقليم التفاح، في موازاة استمرار الوتيرة نفسها، وأفادت مصادر أمنية لبنانية بأن 160 قذيفة سقطت على بلدة عيترون في قضاء بنت جبيل.
    وردّت المقاومة بتحقيق إنجاز نوعي تمثل في رصد مجموعة الاستخبارات العسكرية منذ لحظة دخولها الأراضي اللبنانية وحتى لحظة وصولها إلى أحد البيوت المرتفعة في مارون الراس.