بيسان طي
مرّ عام... تدور في رأس الشاب العائد إلى عيتا الشعب حسابات وأحلام وذكريات كثيرة. نعم لقد مرّ عام، كل شيء تغيّر: الأسماء والوجوه ومعالم القرية التي كانت مدمرة.
في 14 آب 2006 غادر المقاوم عيتا بعدما أمضى فيها 33 يوماً هي الأصعب في حياته، كانت البلدة «أشبه بهيروشيما». هو لا يذكر في أية ساعة أقفل ذاهباً إلى بيروت ذلك اليوم، أو ربما لا يريد أن يبوح بسرّ آخر. لديه كلام كثير ورأسه يضج بالذكريات، «مر عام كنت في كل يوم أعود إلى ذكرياتي خلال الحرب»، بل إنها الذكريات لم تكن ترضى أن تغادره، تفاجئه، تملأ «رأسه»، تخترق لحظات خلوته وتلك الأوقات التي يقضيها في العمل أو مع أولاده وزوجته. وهمّ واحد يقبض على تفكيره «لقد قمت بما طُلب مني، وقاتلت ببسالة ولكني مشغول بسؤال أهم: هل وقعت في أخطاء؟ لماذا لم أقم بكذا أو كذا في أوقات معينة، كيف يكون قتالي أفضل؟».
المقاوم الشرس الشجاع «ليس راضياً تماماً عن أدائه»، وهو في الوقت نفسه مسكون بهمّ أن «يعيش أبنائي بسلام، نحن لا نبني لكي تدمر إسرائيل كلّ شيء، نفضّل العيش بطمأنينة إذا لم تُفرض علينا الحرب ونحن نحب الحياة بعزة»، من هنا نفهم فرحته كالطفل الصغير بقريته التي تحولت في الشهور الأخيرة إلى ورشة إعمار.
الحرب التي لا يهواها فُرضت عليه الصيف الماضي وكان يخطط لقضاء إجازة طويلة مع أولاده، لم يرمِ السلاح لأنه يفضل أن يقول ابنه «إن أباه شهيد لا أن يقول إنه جبان، الحياة جميلة والأرواح أغلى من الحجر لكن أرضنا عزيزة علينا وسندافع عنها دائماً»، لذا بقي هو في عيتا الشعب حيث «كانت المعركة تنتقل من شارع إلى آخر ومن بيت إلى آخر»، والبيوت في ذاكرته وذاكرة رفاقه لم تعد تُذكّر بأسماء أصحابها، بل بالأحداث التي جرت فيها «في هذا البيت تجمّع جنود إسرائيليون بعدما تركه الشباب بدقيقتين، وكان أحدهم قد نسي فيه غرضاً ما فعاد إلى المنزل وفوجئ بالاسرائيليين، انسحب بهدوء ولمّا ابتعد قصف المقاومون البيت فقتل معظم من فيه وفرّ آخرون»، وثمة منزل لم يبق منه إلاّ عمود كان مسرحاً لمواجهة طاحنة، وثالث «صنعنا فيه المناقيش»... ورابع وخامس وسادس صارت بيوت الذكريات وقصص المواجهات. وثمة بيت حفر ذكراه في «قلوب» المقاومين، إنه منزل امرأة لم تغادر عيتا ولم تترك «الشباب»، وكان أحد المقاومين شاباً يعشق الاهتمام بمظهره ويتمتع بروح النكتة، «ذلك المقاوم كان شجاعاً ولكنه على رغم ضراوة المعارك كان يصرّ على أن يحلق ذقنه وأن يأخذ حماماً كل يوم وأن يضع عطراً، وفي أحد الأيام لم يجد مكاناً ليقوم بكل ذلك فأعطته السيدة التي بقيت معنا مفتاح بيتها حيث سيتمكن من الاهتمام بنفسه في وقت لا يكون فيه إطلاق نار، غاب عنّا ساعة ولما عاد كان يحمل باب البيت، فسأل السيدة أتريدين الباب أم المفتاح؟ وفهمنا أن هذا كل ما بقي من بيتها ولكنها بدل البكاء كانت تضحك»، هذا المقاوم الأنيق استشهد خلال مواجهة عنيفة، والعائد اليوم إلى عيتا تؤرقه رؤية أهالي الشهداء، «أشعر بالخجل حين أمر أمام بيوتهم فأولادهم استشهدوا وأنا ما زلت على قيد الحياة».
الموت كان يتربصّ به وبرفاقه في كل زاوية، يقول إنه كلما اشتدّ القصف من حوله «وأدركت أني لم أمت، تدمع عيناي، أستعرض رفاقي وأتساءل من الذي استشهد في هذه اللحظة»، وقد بكى كثيراً، «فالمقاوم يبكي رفاقه الشهداء، ويعتصر قلبه كلما تذكر أولاده، ويحلم في الليالي القاسية بزوجته»، وهو بالتأكيد سيخون قراراته القاسية بأن يمحو خلال المواجهات حياته الخاصة فتمتدّ «يده فجأة إلى جيبه لسحب صورة أولاده»، ينظر إليها ويستعيد ضحكاتهم، «هم يخترقون الجدار الذي حاولت أن أرفعه لأكون في تلك الأيام مقاوماً فقط».
وهذا المقاوم لا يتحدث كما يريد له «آخرون» أن يفعل، إذ تؤلمه التصريحات والكلام الكثير على القتال من أجل حزب الله أو الطائفة الشيعية أو إيران، «لقد قاتلنا كرسالة لكل الأمة العربية، قاتلنا عن كل العرب، وأنا أعرف أن الشعوب العربية مغلوب على أمرها، لم نقاتل من أجل حزب أو طائفة، فلو كان هذا الكلام صحيحاً لانتهى أمر الحزب أو الطائفة مع أية هفوة قد نقع فيها»، وهو الذي جعل نفسه معرضاً للموت في أية لحظة يعرف أكثر من الآخرين لماذا كان يقاتل.
الشاب الأسمر الخجول لا يتوقع حرباً جديدة، ولكنه مستعدّ لها إذا وقعت كما هي حال كل المقاومين، ويبتسم براحة تامة «لأننا نعرف كيف نقاتل بشكل أفضل في المرة المقبلة»، في الوقت الحالي هو مشغول بأحلام حول مستقبل ابنته التي «قد تصبح طبيبة أو دكتورة جامعية، أعرف أنها فتاة جميلة جداً وأنها ستصير أجمل صبية».