strong>رنا حايك
قيظ الظهيرة في عيتا الشعب يفرغ ساحة القرية من الأهالي. تحتلّ اللافتة التي تحوي صور شهداء الحرب الأخيرة ناصية الدكان الذي تملكه اشتياق ووالدها. يأتي أبو حسن ليسلّمها البضاعة، فتهبّ لاستقباله، تساومه ويمازحها، تتناول من «البيك ـــــ أب» مقثاة وتقضمها بشهية، بينما تشير إلى اللافتة المزدحمة بالصور: «هيدا الشهيد هو إبن خالي، بس كلّهن ولادنا». أولاد اشتياق، التي لم تتزوج، هم المقاتلون الشباب الذين أبت مفارقتهم خلال أيام العدوان. فقد نزح والدها مع أختها وأطفالها الذين كانوا قد أتوا من الكويت لقضاء الصيف في لبنان إلى شحيم، بينما ظلّ أفراد الأسرة الباقون في عيتا. أعادوا تمديدات المياه إلى الطابق الأول من البيت وسكنوا فيه طلباً للأمان، بينما فتحوا ثقباً في جدار الدكان ليتزوّدوا باحتياجاتهم. بين غارة وأخرى، كانت اشتياق تسترق لحظة غياب طائرات الاستطلاع في الجو وتقصد الحقل على أطراف القرية لتقطف الخضروات وتؤمن غذاء اليوم. غذاء كانت كميّته تفوق دائماً الكميّة اللازمة لإشباع أفراد الأسرة. فقد يمرّ أحد «الشباب» ويأخذ الزوادة لزملائه المقاتلين المنتشرين في الوديان.
أخت اشتياق كانت حاملاً في شهرها التاسع. أتاها الطلق فأخذها جارهم بسيارته المتضررة من القصف إلى رميش لتضع طفلة سمّيت على اسم المعركة: «الوعد الصادق».
«الله لا يعيدها هيديك الإيام»، تقول اشتياق، لكنها تصرّ على أنها إذا عادت، فستتخذ القرار ذاته بعدم المغادرة: «شو منهرب ومنترك بلدنا متل ما عملوا الفلسطينية؟».
يشارك محمد دقدوق اشتــــياق في موقـفـهـا. «كيف أنتصر إذا هربت وشاهدت المعركة على شاشة التلفزيون من بعيد؟ نحن جزء من هذه المعركة، ولسنا أغلى من هذه الأرض أو من هؤلاء الشباب المقاومين. وحين قلنا للسيد حسن نصر الله لبيك، قصدنا أن نلبّيــــــه في زمن الحرب أيضاً، لا في زمن السـلـم
فقط».
يعرف جميع أهالي عيتا قصة محمد دقدوق وأسرته. هذه العائلة التي سقط على بيتها «قازانان» في ليلة واحدة وأفراده نيام فيه. الآن يعيدون تشييد المنزل ويسكنون مؤقتاً في بيت آخر على طرف القرية ما زالت جدرانه إسمنتية ولم تركَّب له أبواب. محمد وزوجته فضة زوجان في غاية المرح. لم تُقلِّل الحروب المتتالية وطول سنين الزواج وسنوات العمر من حبهما للحياة. يستقبلنا محمد من على التل الذي يربض فوقه المنزل الجديد، بوابل من الجمل الإنكليزية والفرنسية وبسؤال استفهامي لا يخلو من التهكم: «إنتو اللي بتبيعوا حكي؟ ولكام... ولكام».
تتمنّع فضة عن الحديث بادئ الأمر. فقد ضجرت لكثرة ما رددت الحكاية. لكنها لا تلبث أن تتجاوب: «بقينا بعيتا، نخبز ونعجن المناقيش، أنا وزوجي وأبوه وابنتنا وأخت زوجي وسلفي. يوم 2 آب، دخل الإسرائيليون القرية واشتدت المواجهات. نمنا باكراً. عند منتصف الليل، استيقظت مفزعة، كأن قلبي كان حاسسني. قبل الضربة بثواني. لم نسمع صوت الصاروخ. انهارت علينا حجارة السقف فجأة. صرخ عمي: ارفعوا عني الحجارة. زوجي ناداني طالباً مني إزاحة الحجارة عنه حتى يساعدني في إنقاذ الباقين. كنت مذهولة، وقفت تلقائياً ووضعت المخدة على رأسي توهماً مني بأنها ستقيني الحجارة المنهمرة، وانفجرت بالضحك مرددة «ما بدي موت». التفتُّ إلى الجميع وقررت بسرعة أنني سأنقذ صهري أولاً لأنه الوحيد الذي دفن رأسه أيضاً في الردم. أضاءت زوجته بطارية وبدأنا نزيح الردم عنه، لكن سرعان ما قصفنا الطيران مجدداً بقازان جديد. طرنا من قوة ضغطه لبضعة أمتار. صرخت زوجة سلفي، الذي يبلغ الخامسة والثمانين من عمره ويعاني مرضاً في القلب: مات الحاج. عندها انهارت أعصابي. جلست في الزاوية دون حراك. إذاً مهمتي انتهت، قلت لها».
بقي الحاج تحت الردم، نجا أفراد الأسرة الباقون جميعاً، لكنهم لم يستطيعوا الخروج من البيت بعد ذلك اليوم. كانت آخر أيام الحرب هي الأشد. وبدل أن يطعموا الشباب كما كانوا يفعلون قبلاً، أصبح الشباب هم من يأتونهم بالطعام وباحتياجاتهم. ظلت العائلة مكانها حتى إعلان وقف إطلاق النار، تتنشق رائحة جثمان الحاج الممدّد إلى جانبها، بعد أن غطوه بالقليل من التراب.
محمد زوج فضة كان يتوقع المعركة. لم يُفاجأ حين وقعت عملية الأسر في «خلة وردة». سمع أهالي القرية يومها الانفجارات الثلاثة وصعدوا إلى السطوح مباشرة ليتابعوا ما يحدث. فهم معتادون أن يكونوا على خط النار من قبل التحرير، حين كانت «ميليشيا لحد» لا تزال تسيطر على منطقتهم التي سمّيت «بطن الغول» لوقوعها بين المقاومة وإسرائيل.
وهم من أطلقوا عليها اسماً آخر أيضاً، قناة السويس، لأنها كثيراً ما شهدت عمليات ناجحة منذ أن كان الفلسطينيون يقومون بحرب استنزاف انطلاقاً منها كما كان يحدث في قناة السويس قبل عام 1973.
كانت عائلة محمد يومها تتحضر لـ«السلق». وهو الطقس الذي يقوم به جميع أهالي قرى الجنوب تحضيراً لمؤونتهم من البرغل. يشيد محمد بتوقيت العملية. فهو متأكد من أنها لم تكن مصادفة، بل إن المقاومين اختاروا الساعة التاسعة صباحاً لأنه الوقت الذي تفرغ فيه الحقول من المزارعين بعد أن ينتهوا من «القطيفة» ويتجهون إلى بيوتهم لـ«شك الدخان». لم يغادر أهالي القرية قريتهم مباشرة بعد وقوع عملية الأسر. إلا أن معظمهم بدّلوا موقفهم بعد أن سمعوا التهديد الإسرائيلي للأهالي عبر الميكروفونات يتوعّد بتسوية القرية على الأرض. ما إن انتهى النداء حتى بدأ القصف على أطراف القرية تاركاً منفذاً صغيراً لهروب الأهالي. تدافع الأهالي للهروب. تسعون بالمئة منهم اتجهوا نحو رميش، وأدت حالة الارتباك والهلع التي تخبطوا بها إلى وقوع بعض الحوادث كتلك التي كسر فيها أحد الأهالي رجله حين دهسته سيارة أسرة نازحة.
محمد أبى أن يغادر هو وأسرته. فهو يؤكد أنه جزء من هذه الأرض، ويضيف: «هذه أرضنا نعيش فيها ونستشهد فيها. هذا ما يسمى جهاد النفس. فمن الممكن أن نموت خلال فترة السلم بحادث سيارة. الموت سيحدث إذا كان مكتوباً له أن يحدث».
ظلّوا في المنزل، النساء يطبخن، وهو يتجول خلال فترات الهدوء المتقطعة، يؤمن الأكل للمقاومين وللأهالي القليلين الذين بقوا في القرية. يلملم بقايا المخلّفات الإسرائيلية من مؤن غذائية ومعلبات وأدوات إسعافات أولية. كان أول الموجودين في بيت رضا حين تهدم منزلهم على رؤوسهم. انتشلهم من تحت الركام ودفن ابنتهم وديعة في رميش حتى انتهاء العدوان. بعد الثاني من شهر آب أصبح الخروج من المنزل مستحيلاً، فتغيّر نوع المساعدة التي تستطيع هذه الأسرة تقديمها. أصبحوا يداوون الجرحى. أحد هؤلاء الجرحى كان مقاوماً أصبح بعد انتهاء الحرب ينادي محمداً بـ«أبي» وفضة بـ«أمي».
أصبحوا يقضون وقتهم بقراءة القرآن وتلاوة الأدعية ومعالجة الجرحى، بينما يأتيهم الـ«شباب» بالأكل.
هل يعاودون الكرّة إذا وقعت حرب جديدة؟ أم يهربون بعد أن ذاقوا طعم الموت تحت سقفهم لمدة 12 يوماً بقي فيها جثمان الحاج مسجى إلى جانبهم؟
تأتي الإجابة تأكيداً لا يقبل المساومة: سنبقى، وسنكون أقوى لأننا اكتسبنا المزيد من الشجاعة والخبرة بعد تلك الحرب.