جوان فرشخ بجالي
كانت سيروس مدينة عريقة عاشت 1500 سنة بلا انقطاع وعرفت الحروب والسلم. تقع سيروس في شمال سوريا، قرب الحدود التركية، وتحتفظ بين آثارها بثاني أكبر مسرح روماني في سوريا، وداخل جدرانها شيدت مدينة بدأت تكشف أسرارها لعلماء آثار من الجامعة اللبنانية بدأوا العمل فيها

«سيروس أو قوروش هو موقع أثري رائع»، بهذه العبارة تختصر عالمة الآثار ومديرة التنقيبات في الموقع الدكتورة جنين عبد المسيح شغفها بهذه المدينة القديمة، وقد بدأت العمل فيها هذا العام في إطار بعثة أثرية مشتركة من الجامعة اللبنانية ومديرية الآثار السورية.
الموقع ضخم تصل مساحته الى 70.000 متر مربع، ويعود تاريخ بنائه الى الفترة الإغريقية. ويقوم بين أسواره ثاني أكبر مسرح روماني في سوريا بحيث يبلغ قطره الدائري 120 متراً.
وبحسب الدكتورة عبد المسيح، يتم مشروع التنقيب في موقع سيروس بناءً على خبرتها الشخصية ودراسات علمية وضعتها عن هذه المدينة. وتقول «الإغريق هم أول من بنى سيروس التي بقيت مدينة «حية» ذا دور فعال حتى القرن الثالث عشر الميلادي. دراسة الحفريات الأثرية تسمح بفهم 1500 سنة من التاريخ لمدينة حدودية كان لها في بعض الأزمنة دور سياسي، وفي أوقات أخرى دور تجاري. فسيروس أو قوروش تقع على حدود الإمبراطوريات الشرقية والغربية، كما هو مذكور في المراجع الإغريقية العائدة الى 223 ق.م.، «هي عند الحد الفاصل بين الامبراطوريات الفارسية من جهة والاغريقية (السلوقية) من جهة أخرى، ما يشرح استعمالها كمركز عسكري ضخم، وخاصة في الفترة الرومانية».
في تلك الحقبة التاريخية كانت أولوية الأباطرة أن يخيّم السلام والأمان داخل أراضي الإمبراطورية، لذا كان من الضروري «ضبط الحدود» ومنع أي تسريبات الى الداخل. فقد أُنشئ في سيروس مركز عسكري ضخم يستوعب 5000 إلى 6000 جندي محترف.
وتكثر على الموقع الكتابات التي تركها الجنود وتلك التي أرسلت إليهم باسم الإمبراطور.
وتشرح الدكتورة عبد المسيح «أن الدراسة الأثرية للموقع تظهر كيف أن مكانة المدينة العسكرية كانت تعلو شأناً كلما بدأت فترات الصراع أو حتى التوتر على الحدود، أما في فترات السلام، فكان المعسكر «يضيع» في المدينة». وتجدر الإشارة إلى أن مدناً تولد وتبنى قرب المنشآت العسكرية لتلبية كل حاجات الجنود، فهم دوماً مصدر «إنعاش اقتصادي» للمناطق التي يسكنونها.
مع تحوّل الامبراطورية الرومانية واعتناقها الديانة المسيحية والدخول في العصر البيزنطي، تحولت مدينة سيروس من مدينة عسكرية الى مركز صلاة وحج، وخاصة بعدما دفن فيها القديس داميان. فقد كانت تابعة لأبرشية أنطاكيا وكان البطريرك ثيودور قد شيد العديد من المعالم الدينية الضخمة داخل جدرانها. ولا تزال حتى اليوم أطلال عدد كبير من الكنائس الصغيرة موزعة في أرجاء الموقع، وهناك أيضاً بقايا كاتدرائية ضخمة.
والجدير بالذكر أنه كان لسيروس بازيليك، ولكنه وبحسب الكتابات التاريخية هُدّم في العصر الأموي لاستعمال حجارته في بناء جامع حلب. وتقول عبد المسيح «مع الأمويين عادت الحياة العسكرية إلى سيروس التي أطلق عليها اسم قوروش، وبني في داخل أسوارها قلعة كبيرة، وحصّنت المدينة جيداً وتوسع العمران داخلها، فنحن لم نحدد بعد حتى الآن حدودها الفعلية في تلك الفترة. وبقيت المدينة تنبض بالحياة حتى القرن الثالث عشر الميلادي. حينئذ ولسبب لا يزال مجهولاً تماماً هجر السكان المدينة فسكنت غياهب النسيان... وأصبحت قرية صغيرة تعيش من الزراعةويعرف سكان منطقة شمال حلب موقعَ سيروس مقاماً للنبي هوري، نسبة الى مقام شُيّد على التل لأحد الأشراف. ولا يزال هذا المقام حتى اليوم مركز صلاة وتعبّد. وتقول جنين عبد المسيح «إن الموقع يعاني سرقة منظمة للآثار، فحفر السارقين تغوص في الأرض عدة أمتار وهم يبحثون عن قطع الفسيفساء والتماثيل الصغيرة والقطع الفريدة. لذا من الضروري جداً توفير حراسة فعالة للموقع وإحاطته بأسلاك ترسم حدوده وتحميه قدر الإمكان».
بدأت البعثة اللبنانية بالعمل على الموقع خلال فصل الربيع من هذه السنة ثم استكملت عملها خلال أشهر الصيف الأخيرة، وتعمل بالتعاون الكامل مع السلطات السورية التي تموّل حتى نصف تكلفة النفقات. أما النصف الآخر، فالبعض منه يأتي على شكل دعم لوجستي من قسم الآثار في المركز الفرنسي للشرق الأدنى، والقسم الأكبر حصلت عليه بعثة سيروس من مؤسستين عالميتين. فقد تقدمت الدكتورة عبد المسيح بطلب للتمويل من مشروع Euromed (المختص بشؤون الآثار في البحر الأبيض المتوسط والتابع للمفوضية الأوروبية) ومن المنظمة الدولية World Monument Fund، وحصلت منهما على تمويل لمدة سنتين لدراسة الموقع الأثري وترميمه وتأهيله بهدف تحويله الى نقطة لاجتذاب السياح.
وتجدر الإشارة إلى أن بعثة الجامعة اللبنانية ليست الأولى من نوعها في سيروس. فما بين 1952 ـــــ و1975 قامت بعثة فرنسية بتنقيب الموقع وخلال عملها اكتشفت المسرح الروماني وأظهرت معالم المدينة الهلنستية والرومانية وسلطت الضوء على تحصينات المدينة القديمة. ونشرت هذه البعثة نتائج أبحاثها في عدد ضئيل من المقالات العلمية، ولكنها أعطت وثائقها للبعثة اللبنانية ــــــ السورية التي سيتركز عملها الحالي على إظهار المعالم الأثرية التي كان الفريق الفرنسي قد بدأ العمل عليها ودراستها بشكل مفصل ثم ترميمها لفتح المجال أمام السياحة الثقافية على الموقع. وتقول الدكتورة عبد المسيح إن «الأولوية هي لتأهيل المسرح، ومن ثم إجراء دراسة تفصيلية لفهم التنظيم المدني، ودور بوابة المدينة الجنوبية، مثلاً، وخاصة أنها لا تزال تستعمل حتى اليوم للدخول الى الموقع».
وتضيف عبد المسيح قائلة إن «البعثة بدأت تجري دراسات جيوفيزيائية لفهم شكل الآثار المطمورة هندسياً ورسم خرائط لها من دون حتى القيام بحفريات أثرية».
ستكمل البعثة اللبنانية ـــــ السورية العمل على موقع سيروس في السنة المقبلة، وسيُقسم العمل الى مرحلتين، الأولى تشمل التنقيبات الأثرية، والثانية الدراسات العلمية المفصلة للآثار والقطع المكتشفة. وتأمل عبد المسيح أن يكون في تلك الفترة قد تخطى لبنان مشاكله السياسية لكي تستطيع أن تعالج مشكلة العدد الضئيل للطلاب اللبنانيين المشاركين في العمل الميداني. وهي تأمل أن تصبح سيروس «حفرية ـــــ مدرسة» لطلاب الجامعة اللبنانية يتعلمون فيها تقنيات الحفر والبحث عن الآثار وكيفية إتمام الدراسات المعمقة وملاحقة مشاريع الترميم والتأهيل. فعشق عبد المسيح لموقع سيروس لا ينسيها دورها الأساسي المتمثل في كونها أستاذة جامعية هدفها المساعدة في تكوين جيل جديد من أهل الاختصاص.