أنسي الحاج
الناجون

أيّها الصاحب المضطرب،
فوق البيت تكرّ الخيول السوداء، وفي البلاد لا يَردُّ أحد... ولكن تَطَلَّعْ: في زوايا سَرَقتْ نَفْسها، عيونٌ متعطّشة إلى عيون.
قد نرجو خيراً أكثر، ولكنْ ليس بكثير.




معصية

في آن واحد يُطلّ مجهولُ القَلَق على ظلام الهاوية وعلى بياض الضباب المتصاعد من الهاوية.
نتبادل الأدوار والأعمار. إنْ آزركَ خيالكَ في موسمكَ أكرمك، وإنْ ألحَّ عليكَ في غير أوانكَ أذَلّك.
في الثانية خَبّئه تحت أناقة القبعة، مثلما يُموّه السكران تَرَنّحه اتقاءً لشماتة العابرين.




أين؟

أن يعيش الواحد على طبيعته، يا للحظّ! وحظٌّ أوفر أن يستطيع ذلك مع أحد.
بعضهم كلّما كَبُر وجد براءته أكبر منه. مع الوقت، عند هذه الفئة، تغدو السجيّة أشدّ إصراراً وفي الوقت عينه أعسر قبولاً لدى الآخرين.
أن يمارس الواحد ذاته ـــــ أضعف الإيمان ـــــ صعب. أنْ يجد مَن يمارس معه هذه الذات ويتجانسا ويتعايشا، يقال إنه ليس بالأمر المستحيل.
ولكن... متى ؟




سجينُ الحريّة

تَخيّل لو أمكنت القراءة في خَيال المُخّ، الخيال المحض ذهني، السيريبرالي، وعند ذُراه... بصّارات كثيرات يَكْشفنَ الخواطر أثناء «المعاينة». المعاينة حالة واعية، إذاً هابطة غير ذُرَويّة. تخيّل لو أمكنت قراءة الشبق السيريبرالي في أعلى عُلاه عند السَكُوتين فيظهر ما يعتمل في نفوسهم من أهواء دامسة، شاذّة على كلّ معلوم.
حتّى حالات النشوة، الماديّة أو الصوفيّة، لا ينطلق فيها اللسان كليّاً من عقاله. قد يتسرّب بعض الشَرَر ولكنّه قطرة من هطول العقل المخفيّ. هنا يُشَلِّقُ جبلُ الجبال ويُزلزل الإنسانُ زلزاله. لكنّ السور شديد والأرض صلبة، فتَعْبُر السانحةُ ويعود الأسير إلى قَفَصه.
هنا، في هذه المستعمرة الميكروسكوبيّة، يلتجئ ويقاوِم، يدافع ويهاجم، يُداهن ويُجَنّ، يختنق ويبكي، يُصْلَبُ ويَصْلُبُ عميدُ السجناء في قلعة الحريّة.




مظلومونا

نَظَرُكِ المُركَّز يدور حول المعاني ولا يصيب شيئاً محدّداً حتّى لا يلجم فورة المعاني. نَظَرُكِ يدلّ عليكِ كما يدلّ النَحْل على الرحيق. يسألني نظركِ وجوابي سؤال، وبينهما سينقضي الربيع. يحمل نَظَرُكِ أكثرَ من روحكِ، يحمل أجمل ممّا ستحمل أحشاؤكِ، ويحمل أقوى ممّا تحتمل عيناي.
كنتُ أحسبُكِ تعرفين كلّ شيء. عيناكِ ستظلّان مفتوحتين في عينيّ، تَبْعث دهشتُهما في نفسي صدى فتىً كان يُشْبهني.
لا نَظْلِم غيرَ الذين يحبّوننا أكثر ممّا نحبّهم.




«ليحمِكَ الكون»

كانت مفاجأتي الحلوة اليوم رسالة بعثت بها إليّ من فرنسا الصديقة الغالية عائشة أرناؤوط، مع هديّة هي المجموعة الشعرية الوحيدة لنيتشه.
أول رسالة تلقّيتها منها كانت من دمشق. وباسم مستعار. وبعد ذلك بسنة، على ما أذكر، التقيتها بمحض المصادفة. كنت والعديد من أدباء لبنان وفنّانيه في زيارة للعاصمة السورية بعد أيام من توقّف القتال في حرب 1967، وكان يقودنا الشاعر الصديق علي الجندي في زيارة لمستشفى المزّة حيث ضحايا قنابل النابالم من جنود ومدنيين. رافقتنا في هذه الزيارة فراشة بيضاء في زيّ ممرضة، وفي لحظة ما اقتربت وقالت لي بصوت أكثر بياضاً من ثوبها: «أنا أركاديا»، الاسم الأول من اللقب الذي كانت تراسلني به.
كانت تلك الحقبة، بالنسبة إليّ، حقبة الرسائل. عائشة الرقيقة، وصديقة أخرى راسلتني بلا توقيع. رسائلهما عالم يغلي بالصدق، حيث حَجْبُ الهوية الاجتماعية حاجب للخوف، مفجّر لمشاعر ومكنونات هي أحجار النفس الكريمة وقد جَوْهَرها التأمّل وَصَقَلها النوم عليها.
«ليحمكَ الكون» ختمتْ عائشة رسالتها أمس من فرنسا. دعاء لم أسمع به من قبل. غريب وجميل ككلّ ما يبتكره الإلهام في ابتعاده عن الرواسم. في غربتكِ، في غربة كلّ نَفْس وسط «جنون هذا العالم الذي لم أعد أفهمه والذي لا أدرك أسبابه وأهدافه»، ليحمِكِ الكون أنتِ أيضاً. إنّها أقلّ واجباته حيال ملائكته.




سيُعطى

تحيّة للذين أحكموا على أنفسهم إغلاق الأبواب، نسجوا خيوط عنكبوتهم وجعلوها فضاءهم. سبق القول «ليس في المرآة أحد». يضاف إليها: ولا خارج المرآة.
القادم حديثاً يُسْكره الحفل، الأصوات. لا ريب في نفوذ البريق، لولاه لما أمكن اجتياز العتبة. ولو أمكن دوام فقاقيعه الذهبيّة لتحقّقت إحدى أراضي الوعد. لا ريب في خطورة السراب وأفيونه الرحيم، يكاد وحده يستحقّ أن ينعم الإنسان أو يَشقى بحاسّة النظر.
ولكن الحفل ينتهي وتنتهي الأصوات. يَحلّ حكْمُ الليل وتتساوى الأجساد. لا يعود أحد فاتناً.
ولا مُنْقذ حينئذٍ. ومَن يُنقذك حين تخرج من أمّك؟ كلّ خطوة بَعْدَها تُبْعدك أكثر... تتلفّت، تترقّب، تنادي، تستغيث، تُجدّف، تُمعن... وتتلفّت فلا تَجد.
ويتردّد على مسمعكَ من جديد صوتُ مَن وعدكَ بهذا المصير.
لم يكذب عليك أحد.
وفوق هذا، ذات يوم، عندما تَسْمح القوى، سيُعطى الإنسان ما تَحسّر منذ الأزل على حرمانه إيّاه، وسيتبخّر الوهج عن التأوّهات وتُمْتَحَنُ الأحلام.
وسيُلْزَم الإنسان أن يَخْلَع على كثير من القديم أسماء جديدة. وسيؤسَف لاضمحلال مكاره ويُبكى على إختفاء آلام.
لا نتعلّق إلّا بالذين يبتعدون ونحن في أحضانهم.




«پيتـــر پـــان»


في ذكرى ميلاد كل واحد، بعد أن تتكوّن لديه بطانة ذاكرة، شيء من الوداع. يقول التلمود: «الذي يتساءل ماذا هناك فوق، ماذا هناك تحت، ماذا كان هناك من قبل، ماذا سيكون هناك من بَعْد، أفْضَل له أن لا يكون قد خُلق».
لو أمكننا أن نعيش بخفّة الهواء عِوَض الدورة الدمويّة لتيسّرت لنا الحياة بلا قلق كما يحضّ التلمود. في زمن آخر يعنّف المسيح مَنْ سأله بخوف كيف يوفّر غذاءه غداً إن لم يَعمل، مجيباً ما معناه أن الأب السماويّ الذي يرزق العصافير طعامها هل يُعْقل أن يترك البشر جائعين؟ وهنا أيضاً، في مجال أكثر واقعيّة، حضٌّ على ترك القلق.
ذلك هو الحلّ بالإيمان. وليس بأيّ إيمانٍ كان. وهو ليس ميسوراً للجميع. لرجل المسرح ريمون جباره اقتراح خلاصته أن يولد المرء عجوزاً وكلّما تقدّم في العمر صَغُرَ، وهكذا حتى ينتهي طفلاً ويظلّ يَصغر إلى أن يختفي وربّما يعود إلى بطن أمّه. فكرة منعشة. وثمّة مَن يزيد عليها بالقول: لماذا نبدأ المسار بالولادة ولا نبدأه بالموت ثَم ندلف إلى الحياة؟
الأيّام أوراق شجرتنا، ليس لنا حيالها غير التوجُّس أو الغيبة أو محاولة تجاهل ما يتساقط منها. للشاب في عيده ـــــ ولي رفيق عزيز من الشباب صودف عيده أمس ـــــ لا لزوم لقول الكثير، فهو قويّ وجميع الكلمات أمامه. ها قد خرج كالسيف من طفولته، وإنْ هو خَشي الغد فخشية الموعود، والغدُ أيضاً يخشاه. أمّا الشيخ فقد يصحّ عليه التأنيب لبلوغه هذا العمر، وقد يتوجّب عليه الإعتذار. وإنْ كان لا بدّ من أمنية فالدعاء له أن يعيده الزمن طفلاً من دون هَوان، أو أن يحافظ على رعاية الطفل الذي كان فيه، وأن يثابر هذا الطفل على إيمانه بالجنّيات.
يقول السير جيمس بارّي في «پيتر پان»: «كلّما قال طفلٌ «أنا لا أؤمن بالجنّيات»، هنالك في مكانٍ ما جنّيةٌ صغيرة تموت».
الصغير يؤمن بالجنّيات من أجلها، الكبير يؤمن بها من أجله. في الحالتين ما ألطف النجدة. وكم هو قويٌّ مَن لا يحتاج إليها.