عفيف دياب
لم تتعب كفرشوبا بعد من إعادة إعمار ما تهدّمه إسرائيل، وأبناؤها أورثوا هذه المهمة إلى أولادهم وأحفادهم. لقد كانت هذه البلدة الصامدة في «بوز» المدفع منذ أكثر من نصف قرن، كتبت خلاله تاريخها الطويل في صراع لم ينته بعد. في «عدوان تموز» كان التدمير الخامس لكفرشوبا التي تنتظر من يكتب «حكايتها» مع إسرائيل من الألف إلى الياء

يسير أبناء كفرشوبا في بلدتهم كأنهم لا يعرفونها. معالمها تغيّرت كثيراً بعد الحرب الأخيرة.
هي ليست المرة الأولى التي تصبّ فيها إسرائيل حممها على هذه البلدة الحدودية المقاومة، لكن التدمير الذي شهدته هذه المرة كان الأكبر.
قبل ذلك كان تاريخ 1975 محطة فاصلة في تاريخ كفرشوبا. «دمرّت بالكامل» لم تكن مجرد عبارة تقال بل كانت توصيفاً لحقيقة واقعة. لكن ما الذي يمكن أن يقال اليوم عمّا حلّ بالبلدة؟ هذا ما يجيب عنه عدد من أبنائها...
لم يكن حسين عبد العال (أبو علاء)، أحد أبناء كفرشوبا الصامدين، يعلم أنه سيصبح شاهداً على كل مراحل تدمير إسرائيل لبلدته كفرشوبا منذ عام 1969، وشاهداً حيّاً على التدمير الخامس لها في قال موشي دايان انه سيحوّل كفرشوبا إلى ملعب «فوتبول»، لكنه لم يعرف أننا أعدنا بناءها»!
وضع أبو علاء الحجر الأساس لبناء منزل له في البلدة عام 1976. المكان الذي اختاره يقع على تلة مشرفة على البلدة وتحت موقع الاحتلال في رويسات العلم. أكثر من ثلاثين عاماً ولا يفارقه حلم إنجاز بناء هذا البيت من دون أن يحققه «ربما هذا الصيف» يقول. ويتذكر أن أكثر من سبعين غارة جوية استهدفت كفرشوبا مباشرة في أقلّ من 24 ساعة في يوم حار من أواخر شهر تموز 2006.
بعد توقف ما يسمّى العمليات الحربية في 14 آب الماضي كان أبو علاء أوّل الواصلين الى كفرشوبا التي غادرها قسراً قبل ساعات من تدميرها يومي 25 و26 تموزقبل ذلك تعرّضت البلدة لاستهداف مباشر بالقذائف الفوسفورية والمدفعية الثقيلة والغارات الجوية التي طاولت كلّ أطرافها بما فيها «معبرها» الوحيد المؤدي إلى لبنان الكبير بعد أن قطعت طريقها منذ 1967 مع مزارع شبعا والجولان السوري يوم لم يعد الأهالي ينتظرون «بوسطة بيت عبله» قرب العباسية ــــ المجيدية للتوجه الى القنيطرة والشام.
يقول أبو علاء خلال جولة معه في أحياء البلدة إنه لم ير يوماً قريته مدمرة بهذا الشكل: «أوّل ما وصلت إلى الضيعة شعرت بأني في قرية ثانية غير كفرشوبا، في 1975 دمّرت اسرائيل كلّ الضيعة لكن معالمها لم تتغيّر، أما الآن فلم أعد أعرف بيت فلان وين صار، مثلاً سطح بيت أحمد عبد الله طار وإجا بالساحة، وبيت أحمد العقيبه صار بالوادي، وبيت أحمد علي مريم حجارتو صاروا بالشقفان... شي غريب، مشهد ما شفت متلو بحياتي»!
منذ 1969 وحتى 2006 دمرت الطائرات الاسرائيلية كفرشوبا خمس مرات، وكان تدميرها الأكبر عام 1975 والأكبر منه في تموز 2006. يقول مختار البلدة احمد دياب ان التدمير الاخير لكفرشوبا كان قاسيا وموجعاً: «نحن لم نكن أنجزنا بعد ما دُمر في عدوان 1975، ومنذ عام 2000، تاريخ التحرير، يعيد أهالي البلدة بناء منازلهم التي دمرت في تموز مرّة جديدة».
أورث أهالي كفرشوبا أولادهم «إعمار» البلدة أباً عن جد. يقول حسني هاجر الذي أصيب منزله بقذيفة فوسفورية واحترق «شكلاً ومضموناً» خلال العدوان انه منذ 1969 وهو يشاهد والده يعيد بناء أو ترميم منزله بعد كل تدمير إسرائيلي للبلدة «وها أنا اليوم أعيد بناء منزلي من جديد وهو الذي لم يكن منجزاً بالاساس والاصل»!
توارث و«وراثة» إعادة البناء في كفرشوبا لم يتعبا الأهل والأبناء والأحفاد. ويقول المختار محمد سعيد قصب: «ما بدها شي، القصة يا عيني.. هني بيدمروا ونحنا بنعمر..»!.
أصبحت مشاهد تدمير كفرشوبا المتكررة «مألوفة»، فالبلدة، على حد تعبير رئيس التعاونية الزراعية علي قمرة الذي يقوم بترميم وبناء ما تهدم من منزله ومنزل أهله، لا تموت ولا أحد يقدر على قتلها: «شو بدنا نشتغل، ما عنا شي إلا تعمير الضيعة، تعوّدنا وتأقلمنا».
هذا «الاعتياد» على إعادة البناء في كفرشوبا أتعب الاهالي وإن لم يتكلموا أو يشتكوا. فالبلدة المعروفة بتاريخها السياسي في العرقوب وتحولها الى معقل للمقاومة الفلسطينية قبل اتفاق القاهرة عام 1969 والى معقل آخر للمقاومة الوطنية اللبنانية بعد اجتياح 1982 وانتقال شبابها الى العمل السري تحت الاحتلال الاسرائيلي، تحولت بعد عام 2000 وتحرير الجنوب الى معقل للمقاومة الاسلامية وبوابة لتحرير مزارع شبعا وأخواتها. وتعرّضت منذ 1967 وحتى 2006 لأكثر من 208 اعتداءات إسرائيلية وفق إحصائية أعدّها شباب البلدة أخيراً، والاعتداء في الاحصائية أو الدراسة يشمل فقط الغارات الجوية والقصف المدفعي المباشر لكفرشوبا عدا الاستهداف الاسرائيلي لمحيطها أو أراضيها الزراعية.
هذا الكم الكبير من الاعتداءات الإسرائيلية «أتعب» الاهالي الذين لم يبق منهم سوى 800 مقيم (صيفاً) من أصل عشرة آلاف. هذا «الرقم» لعدد المقيمين يشير بوضوح الى مدى «تعب» أهالي كفرشوبا الذي يبقى «سراً» لا مجال للبوح به اليوم لأن «الصراع مع إسرائيل لم ينته بعد» كما يؤكد محمد القادري الذي يجد في موقع بلدته الجغرافي سبباً آخر لاستمرارها في مقاومة إسرائيل عدا هويتها السياسية التي و«إن تبدلت بين مرحلة وأخرى، فالكل هنا متفق على أن إسرائيل هي العدو الاوحد لنا، وإصرارنا على إعادة إعمار ما تدمره إسرائيل يؤكد أهمية دورنا في المقاومة، وإن كنا قد أرهقنا اقتصادياً».
كفرشوبا، أو قرية «الإله» باللغة الآرامية، التي تحتاج إلى اكثر من 5 سنوات لإعادة ما دمر في العدوان الاسرائيلي الاخير، لم تنس شهداءها الأربعة الذين سقطوا جراء الغارات الجوية، وهي التي لم تنس كل شهدائها الـ104 الذين سقطوا خلال مقاومتهم لإسرائيل وعملائها، تنتظر اليوم وبعد مرور عام على تدميرها الخامس وزرع حقولها بالقنابل العنقودية، من يكتب «حكايتها» مع إسرائيل من الألف الى الياء!