strong>تحاول هذه الدراسة إلقاء الضوء على المشكلات التي واجهت الجيش الإسرائيلي في إدارة حرب تمّوز. وهي تبدأ بمسألة تعريف الحرب كحرب لا كعملية عسكرية، وتشمل نمط القتال الذي اعتاد عليه الجيش الإسرائيلي وهو النمط المسمّى بـ"ما بعد البطولي"، ولا تنتهي بالتركيز على المعرفة التكنولوجية على حساب المناورات والحِيل. يضاف إلى ذلك كلّه، نوعيّة الجنود والضباط الذين باتوا يشكّلون نواة الجيش الإسرائيلي
إذا تفحصنا الحرب من الوجهة المتعلقة بالنظرة الإسرائيلية ـــــ العربية، فإننا سنجد فيها، على الأقل ثلاثة جوانب خاصة:
أ- لم يسبق للجبهة الداخلية الإسرائيلية أن شهدت هجوماً مماثلاً عليها في السابق. إذ سقط ما يزيد على أربعة آلاف صاروخ على أرض إسرائيل، من غير أن ينجح الجيش الإسرائيلي في وقف إطلاقها.
ب- دارت الحرب، في مراحلها الأولى على الأقل، في ظروف شبه مثالية. إجماع داخلي، وتأييد دولي واسع جداً، إضافة الى تأييد غير صريح من جانب دول عربية معتدلة، فضلاً عن شعور أوحى به الأميركيون بأن لدينا متسعاً من الوقت ومن دون قيود زمنية. وهي ظروف كانت شبه مثالية عملت على زيادة الإحساس بالفشل وإضاعة الفرصة، مع انتهاء الحرب.
ج- تمحورت مشكلات إسرائيل في الماضي، كمشكلات رئيسية، في مجالات الردع والإنذار، وعملت على التعويض عنها من خلال قدراتها العسكرية، سواء في ما يتعلق بالإخفاقات الردعية أو الإخفاقات في الإنذار، وتبيّنت في الحرب الأخيرة صورة اسرائيل الردعية، كما شهدت على ذلك كلمات نصر الله بعد الحرب.
لقد قامت الاستخبارات العسكرية (أمان) بالإنذار قبل حادثة الاختطاف. لكن في مقابل ذلك، كانت أعمال الجيش الإسرائيلي غير مرضية. وهي مشكلة لا يجوز تجاوزها والتحوّل عنها باتجاه جدول الأعمال اليومي، لأن الحديث الأمَرّ يتعلق بمشكلة أساسية، وهو لا صلة له بهذا التصور السياسي او ذاك. اذ يمكن العمل على استبدال الحكومة الإسرائيلية لكن لا يمكن استبدال الجيش الإسرائيلي.
سأتحوّل الى عرض عدد من المشكلات الرئيسة في إدارة الحرب، مع التأكيد على استخدام القوة العسكرية. وتتصل إحدى المشكلات في الحرب بتعريف ما حدث على أنه حرب، لا عملية عسكرية. علماً أنه لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يحدث فيها شيء كهذا. فقد بدأت حرب لبنان الأولى أيضاً كعملية تطورت لتصبح حرباً. وحينها لم يكن واضحاً منذ البدء أن الأمر يتعلق بحرب، ولم يُعرّفوا ما جرى كحرب. والمعروف أن لذلك (تعريف العملية كحرب) تأثيراً سلبياً على تجنيد الاحتياط، وعلى جهاز نشر المعلومات الاستخبارية، وعلى تطبيق الخطط التنفيذية التي أُعدت من قبل، إضافة الى التأثير على النظام اللوجستي، وعلى نظام القيادة والسيطرة وغير ذلك.
تتمثل المشكلة الثانية في تمسك اسرائيل والجيش الإسرائيلي خاصة، بنمط قتالي يسمى «ما بعد البطولي». منذ عملية الليطاني عام 1978، تبنى الجيش الإسرائيلي نمطاً قتالياً سمّاه إدوارد لوتفيك باسم «القتال ما بعد البطولي». ويتمثّل هذا النوع من القتال على قاعدتين رئيستين، صاغ لوتفيك الأولى منها:
أ- الواجب هو محاولة الامتناع عن إيقاع خسائر في صفوف قواتنا.
ب- يجب الامتناع عن المس بمواطني العدو.
يلائم هذا القتال الديموقراطيات الغربية، التي تخوض حروباً غير وجودية لجهة التهديدات الكامنة فيها، وتتمتع بتكنولوجيا متقدّمة تُمكّنها من إلحاق إصابات دقيقة عن بعد وتساعد على تخفيف إصابة قواتنا قدر المستطاع واصابة مواطني العدو. يُمكّن هذا القتال من أن تكون فعّالًا من ناحية تنفيذية، وأن تحافظ في الآن نفسه على معايير أخلاقية وأن تحظى بشرعية داخلية وخارجية أيضاً. عمل هذا الطراز جيداً إزاء الفلسطينيين، وبنجاح جزئي إزاء حزب الله. على أي حال طبقت اسرائيل دائماً هذا الطراز القتالي حين واجهها عدو قاتل قتالاً بطولياً، أي قتالاً يُراد منه أن تقتل أكبر قدر ممكن، وليس من الفظيع اذا قُتلت.
أيدتُ هذا القتال، لكن كان من المناسب في الحرب الأخيرة التخلي عنه. لم يكن في الإمكان الحسم عسكرياً وتحقيق أهداف الحرب الطموحة، أو لمزيد من الدقة الطموحة جداً، إلا عبر التخلي عن طراز القتال ما بعد البطولي والمبادرة الى هجوم بري واسع. التمسك بقواعد القتال ما بعد البطولي قد يقطع الجهد العسكري إذا كانت قواتنا قد تحملت خسائر باهظة وفي حال حدوث إصابة شديدة للمواطنين في الجانب الثاني، كما حدث في قانا، عندما أوقف «الضرر البيئي» الحرب ليومين بضغط اميركي. تحيّر المستوى السياسي والعسكري بين قتال بطولي وقتال ما بعد البطولي، ويبدو أن هذا كان أحد أسباب الحيرة أثناء الحرب، هل تستعمل قوات برية كبيرة أم لا.
تتناول المشكلة الثالثة عدداً من الافتراضات الأساسية والاعتقادات الإشكالية التي قامت في أساس ادارة الحرب، وتأثرت بقدر كبير بالتغيرات التكنولوجية، التي قوّت أساس النار في ميدان القتال على حساب أساس المناورة، وسبّبت نشوء قدرات بعيدة المدى في مجال المعلومات.
يمكن أن نسمي الاعتقاد الإشكالي الأول عبادة التكنولوجيا. ففيما أجرى باحثون أميركيون قبل نحو عشر سنوات مقابلات مع ضباط كبار من الجيش الإسرائيلي ووجدوا توجّهاً متزناً نحو التكنولوجيا، انتقل الجيش الإسرائيلي في السنين الأخيرة الى أمركة كبيرة. سيطر عليه من جملة ما سيطر عليه منطق تكنولوجي، على حساب إحكام الحيلة.
التكنولوجيا عامل مهم، يجب تطويره واستعماله، لكن يجب ألا نجعله كل شيء. إن التأكيد المبالغ فيه للتكنولوجيا قد يسبّب التفكير في العدو على أنه أقل قدراً، وأن القوات المتصلة بالشبكة، التي تتمتع بمعلومات استخبارية شبه كاملة في الوقت المناسب (وهو شيء غير موجود البتة) وبقدرة عالية على تحقيق اصابات دقيقة ومدمرة، تستطيع أن تعالجه بنجاعة على نحو شبه محكم ـــــ حتى لو كان الحديث عن منظمات حرب عصابات وإرهاب. في الواقع، لقي الجيش الاسرائيلي عدواً محكماً، وذا حيلة، ومصمماً، ومستعداً للتضحية، وذا نظام قيادة وسيطرة قوي ومنيع، يلعب هو أيضاً في الملعب التكنولوجي، ويملك سلاحاً بسيطاً لكنه فعال، وأدوات لإدارة القتال الإلكتروني.
يتصل الاعتقاد الإشكالي الثاني بالثقة بالقوة الجوية. لم يُخضع جيش كامل قط من الجوّ. فكوسوفو، التي تُذكر في أحيان متقاربة كمصدر إلهام، ليست مثالاً لحسم عسكري استراتيجي، لأن قدرة الجيش الصربي على القتال لم تُستلب، وتم الحسم بواسطة الضرر الذي تم التسبب به لمجتمع العدو واقتصاده وهو ما يسمّى حسماً استراتيجياً شاملاً. إن إخضاع العصابات والإرهاب من الجو بإمكانه أن يؤول الى الصفر أيضاً. الاعتماد على القوة الجوية يتصل بعبادة التكنولوجيا، وقد تغلغل الى الوعي قبل الحرب بوقت طويل، بتأثير من «الزرق» (إشارة إلى سلاح الجو) بقدر كبير، الذين سيطروا على مفارق مهمة في هيئة القيادة العامة.
الى جانب الاعتماد على القوة الجوية، تطور في السنوات الأخيرة اعتماد اكبر على قوات خاصة، بافتراض أن التأليف بين القوة الجوية والقوات الخاصة سيثمر فاعلية تنفيذية كبيرة. تبين في هذه الحرب بالفعل مدى محدودية فاعلية الوحدات الخاصة، وأنها لا يمكن أن تكون بديلاً عن قوات برية كبيرة، إذا أردنا إحراز حسم عسكري أو إزالة تهديد صواريخ الكاتيوشا.
ظاهرة أخرى، إشكالية جداً، تأثرت هي أيضاً تأثراً كبيراً بتقوية أساس النار (القصف عن بعد) على حساب المناورة، هي تغلغل مفهوم «السيطرة» من عالم المفاهيم الجوية والبحرية الى التفكير البري، الى حد جعله بديلاً عن احتلال الأرض. نتذكر التصريحات في شأن السيطرة على بنت جبيل اثناء الحرب. لا تُحسم الحرب بالسيطرة، وبالسيطرة لا يقضون على البنى التحتية للعصابات والارهاب.
بتأثير تقوية أساس النار على حساب المناورة، مر الجيش الإسرائيلي أيضاً بثورة لوجستية، ترتكز على نظام أكثر تركيزاً على حُزم لوجستية ميدانية. وعلى ضوء المشكلات اللوجستية، التي تبينت في هذه الحرب، يُثار سؤال هل يستطيع نظام من هذا النوع، طُوّر في السنين الأخيرة، أن يدعم عملية برية واسعة النطاق مع أساس قوي من المناورة.
يُشتق مما قيل آنفاً في الظاهر، من جملة ما يُشتق، أنه إذا كان يمكن إحراز إنجازات عسكرية مثيرة بمساعدة تكنولوجيا مُحكمة، وقوة جوية، وقوات خاصة، بغير مناورة برية وما شابه ـــــ فلا حاجة الى قوات احتياط كبيرة مستعدة استعداداً جيداً للقتال. وكانت النتيجة أن كُفّت قوات احتياط كبيرة عن التدرّب، والتزود كما ينبغي، أو الاتصال بالتكنولوجيا المُحكمة.
إلى هنا أريد أن أشير باختصار، حول الفرضيات والاعتقادات الخاطئة، إلى ثلاث مشكلات أخرى. المشكلة الصعبة جداً التي كُشف النقاب عنها في الحرب هي مشكلة القيادة العسكرية. كانت الإجراءات العسكرية في الحرب مكشوفة، ومتوقعة، ومباشرة وغير إبداعية. وبرز بروزاً خاصاً الجهد السيزيفي لدفع حزب الله الى الشمال. تحدثوا عندنا لمدة سنوات عن الضباط وأنهم أرباب السيف والقلم. في الواقع، من يعرف الضباط الكبار عن قرب يعلم أن الحديث يدور، بشكل عام، عن ضباط لديهم التجربة والحدس خاصةـــــ وهو ما سمّاه ليدل هارت «جنوداً عمليين»، في حين أن الجيوش الجدية تُنمّي ما سمّاه عالم الاجتماع العسكري جانوبيتش «جنوداً مفكرين». القصد بـ«الجنود المفكرين» التزامهم الرئيسي هو الأسئلة العملية، لكنهم من أجل مواجهة المشكلات العملية يستمدون الإلهام من نظرية عسكرية ومن تاريخ عسكري.
... هل نستطيع التفكير في قادة كبار في الجيش الإسرائيلي قادرين على تفكير يؤلف بين النظرية والتاريخ العسكري في المبدأ، والتخطيط والتنفيذ مثل شوارزكوف وأمثاله؟ أخشى ألّا يكون هناك كثير كهؤلاء، إذا وجدوا أصلاً.
ابتعد ضباط الجيش الاسرائيلي منذ وقت عن التجربة القتالية التي تتجاوز نشاطات عمل الشرطي في المناطق. لا يقرأ الضباط أدباً عسكرياً متخصصاً، وهو كله أو أكثره باللغة الإنكليزية التي لا يتقنها كثيرون منهم. ومن المؤكد أنهم لا يعرفون عن قرب ما كتبه مفكرون عسكريون كلاسيكيون لم يخبُ وهجهم الى الآن.
...تتصل مشكلة أخرى انعكست على إدارة الحرب بتردد المستوى السياسي. بتأثير الحرب ما بعد البطولية، وصدوراً عن الإيمان بوعد أنه سيكون في الإمكان التوصل إلى حسم من الجو بمساعدة قوات صغيرة، لم يُعلن المستوى السياسي للحرب، ولم تُجند قوات الاحتياط في الوقت المناسب، ولم يأمر بعملية برية واسعة النطاق كان متعذّراً من دونها إحراز أهداف الحرب الطموحة التي نصبها هو نفسه. هذا الأمر، إضافة إلى قلة خبرة رئيس الحكومة ووزير الدفاع، انعكس انعكاساً سلبياً هو أيضاً على إدارة الحرب...




الكاتب: آفي كوبر
(محاضر في العلوم السياسية وباحث في مركز بيغن -السادات)

المصدر: مركز بيغن - السادات للأبحاث