نقولا ناصيف
أكثر من سبب يجعل الرئيسين أمين الجميّل وميشال عون يخوضان المعركة السياسية ـــــ لا الانتخابية فحسب ـــــ الخطأ. ويفسحان لأعدائهما وحلفائهما على السواء، والمسيحيين خصوصاً، أن يخوضوا كذلك معاركهم السياسية على أرضهما. ومع أن كلاً منهما في مواجهة أمر واقع أرغمه على خوض الانتخاب، فإن التشنّج في شارعيهما بات يتأثر بكل ما يقال عن الزعيمين المتنيين، من غير أن يصدر عنهما.
ليس للجميّل إلا أن يخوض معركة المحافظة على مقعد نجله النائب والوزير الراحل بيار الجميّل من أجل شهادته ومغزاها، لذا قال إنه أجبر على معركة لا يريدها، وليس لعون إلا أن يخوضها بمنطق مغاير لما راهن عليه خصومه، وهو أن طعنه بدستورية حكومة الرئيس فؤاد السنيورة يجعله يحجم عن خوض الانتخاب الفرعي، فإذا به يخوضها كي لا يسجّل سابقة الطعن بصلاحية دستورية هي لرئيس الجمهورية تجاوزها مجلس الوزراء عندما وضع يده عليها بإصداره مرسوم دعوة الهيئات الناخبة ونشره المرسوم ـــــ وصلاحية الإصدار ملك الرئيس وحده أيضاً ـــــ خلواً من توقيع الرئيس إميل لحود، الأمر الذي عنى للعماد أن الإحجام عن خوض الانتخاب يكرّس سابقة السطو على صلاحية دستورية لرئيس الجمهورية، وأن الانخراط فيه يرمي إلى الطعن بالمرسوم لدى المجلس الدستوري. والمطلعون عن قرب على موقفه سمعوا منه أن المشكلة ليست في إبقاء المقعد لآل الجميّل، بل في إمرار الاعتداء على صلاحيات رئيس الجمهورية.
إلا أن الانتخاب الفرعي يبقى المعركة الخطأ لأسباب:
1 ـــــ أنه لا يتعدّى كونه انتخاباً لملء شغور في مقعد نيابي خلا باستشهاد الجميل الحفيد. ليس هو معركة على أن مَن من مشروعي قوى 14 آذار والمعارضة سيربح بالفوز بهذا المقعد ويضع يده على مجمل الحياة السياسية اللبنانية وعلى الاستحقاق الرئاسي خصوصاً، ولا على أي من هذين المشروعين ينتظر الانتخاب الفرعي كي يهزم الآخر أو ينفجر هو من داخله من جرائها. ومع أن كلّاً من الجميّل وعون منضو في مشروع سياسي مناقض للآخر، فإن انتصار أحدهما في الانتخاب الفرعي ـــــ وسيكون في واقع الأمر ثمة مرشح منتصر واحد ـــــ لا يسقط الآخر من المعادلة السياسية والانتخابية والشعبية، ولا يحلّ مشكلات هذا المشروع في السلطة وخارجها مع نقيضه. وهو انتخاب فرعي يخصّ مزاج المتنيين ـــــ مثل سائر المقترعين اللبنانيين ـــــ الكثير التقلّب والتأثر بالتجاذب السياسي والشائعات والتطرّف والتعلّق بالرموز.
2 ـــــ قبل الجميل وعون عرف زعماء موارنة كبار طعم الخسارة. عام 1951 خسر الشيخ بيار الجميّل انتخابات المتن في البالوتاج بفارق ضئيل أمام بيار إده هو 149 صوتاً، وسرعان ما ربح عليه رئيس حزب الكتائب في انتخابات 1960 التي دشّنت زعامته على الدائرة الأولى لبيروت، وكانت إيذاناً بالانسحاب النهائي لإده من الانتخابات النيابية والحكومات، وفي انتخابات 1964 خسر الرئيس كميل شمعون مقعده في الشوف والعميد ريمون إده في جبيل. ولم تُقفل أبواب أي من البيوت الثلاثة. كما لم تُقفل بيوت الرؤساء أحمد الأسعد وصائب سلام وعبد الله اليافي وكمال جنبلاط في انتخابات 1957، ولا كاظم الخليل في انتخابات 1960، ولا عادل عسيران في انتخابات 1964، ولا جوزف سكاف في انتخابات 1968. وبالأمس القريب عندما نفي إلى باريس كل من الجميل 12 عاماً، وعون 14 عاماً، لم يحل سواهما في زعامتيهما: ظلّ حزب الكتائب على اسم عائلة المؤسس رغم تعاقب مَن ترأسه في انتظار الجميل الابن، والشارع المسيحي ينتظر عودة الجنرال كي يقوده من داخل. وعندما عادا أكدا النظرية التقليدية اللبنانية أن البيوت السياسية لا يُقفلها إلا أحد اثنين: الموت أو الانسحاب الإرادي من الحياة السياسية.
بل الأصحّ أن خسارة انتخابات نيابية، في بعض جوانب تأويلاتها، تكاد تكون من عدّة شغل تعزيز الشعبية، وأحياناً حاجة ضرورية يتطلبها الزعيم والسياسي كي يصير لفترة وجيزة شهيداً سياسياً مضطهداً من أجل أن يُبعث قوياً مجدداً في لعبة المعادلة الداخلية. هي قصة كل البيوت السياسية اللبنانية ماضياً وحاضراً في الانتخابات ومن دونها. ولعلّ المثير في الأمر أن أكثر مَن يضطهد الزعماء الموارنة هم الزعماء الموارنة: طارد شمعون سليمان فرنجية ورينه معوّض عامي 1957 و1958 فلم تُقفل أبواب بيتهما، واضطهد شهاب شمعون وريمون إده في الانتخابات النيابية، وجان عزيز في الانتخابات الرئاسية عام 1970 عندما فضّل عليه الياس سركيس فلم تتفكك زعامة نائب جزين. من قبله حارب شهاب بضراوة، شمعون وعزله، وتعقّب رجال عهده مَن يدخل بيت سلفه ومَن يخرج منه ومنع السياسيين من التحالف معه، وتنصّت «المكتب الثاني» على مكالمات «العميد». فعل كل ذلك أيضاً من قبل الشيخ بشارة بسلفه الرئيس إميل إده بعد معركة الاستقلال عام 1943، فروقب وطورد زواره، ولبثت سيارات تتجسّس على الداخلين والخارجين. وفي حصيلة الأمر ظلّ الجميع داخل اللعبة السياسية، يتناوبون على القوة والضعف وتقلّب السياسية والسلطة.
بل تكاد تكون ثمة قلّة بين الزعماء الموارنة ممَن نسوا حروبهم الصغيرة. رغم أن سركيس ترشّح ضدّ سليمان فرنجية في انتخابات 1970، لم ينتقم منه الرئيس عام 1974 عندما انتهت ولاية حاكم مصرف لبنان، ولم يستجب إصرار الوزير جوزف سكاف على تعيين سواه انتقاماً منه ومن رفاقه الشهابيين، بل ثبّته في الحاكمية إلى أن خَلَف الحاكم الرئيس في انتخابات 1976. قصة نادرة في حياة الزعماء الموارنة الذين لا يغفر بعضهم لبعض.
3 ـــــ إذا ربح الجميّل انتخابات المتن فسيقال له إن فوزه كان بنصف أصواته، ولن يكرّسه زعيماً للمتن كما كان هو ومن قبله والده (نائب بيروت) وخاله الشيخ موريس الجميّل اللذان كانا يؤلفان لائحة القضاء. وسيقال له انه أصبح مرشحاً ضعيفاً لرئاسة الجمهورية. وإذا فاز عون سيقال له إنه فاز بنصف أصوات المتن، ومغزى ذلك أن نصف المنطقة تخلى عنه للجميّل، بعد أن يقال للأخير إنه لم يستردّ من المتن إلا نصفه. إذن الرجلان خاسران، في حسابات الحلفاء والخصوم، وإن ربح أحدهما. ولأن الانتخاب فرعي والإقبال يكون ضعيفاً لافتقاره إلى الحماسة في غالب الأحيان، سيقال لعون ـــــ إذا ربح مرشحه ـــــ إن شعبيته تدنت من نسبة راوحت بين 62 و68 في المئة في انتخابات 2005 إلى ما دون ذلك إذا تعّذر عليه استعادة نسبة المشاركة نفسها التي بلغت 51,2 في المئة من مجموع 83500 مقترع متني. لكن هل تراهم يقولون لرئيس تيار المستقبل النائب سعد الحريري أن شعبيته هو الآخر تدنت إذا لم تشارك نسبة مماثلة لتلك التي شاركت في انتخابات 2005، وبلغت 47 في المئة من الناخبين السنّة الـ 25331 الذين وقفوا إلى جانبه من مجموع 42160 مقترعاً في الدائرة الثانية لبيروت، وحاز حينذاك النائبان بهيج طبارة والراحل وليد عيدو نسبة 80 في المئة من أصوات المقترعين؟
قياس ذاك ككقياس هذا.
لكن مشكلة الانتخاب الفرعي ليس ذلك فحسب.