جان عزيز
هل من رابط بين تحذير المطران بشارة الراعي في السادس من تموز الجاري، من أن «حكومة السنيورة آخذة في أسلمة لبنان» وكلام سكرتير البابا بندكت السادس عشر، المونسنيور يورغ غاينسفين، أول من أمس عن «أسلمة أوروبا»؟
متابعون لعلاقة البطريركية المارونية بحاضرة الفاتيكان، يؤكدون الصلة الوثيقة بين خلفيتي الموقفين. يؤكد هؤلاء أن بحثاً عميقاً يجري في روما منذ وصول جوزف راتزنجر إلى السدة البطرسية، إثر وفاة يوحنا بولس الثاني في نيسان 2005.
وهذا البحث تركّز على «حضور المسيحية» في العالم، وخصوصاً في العالم القديم، مطلع الألفية الثالثة.
ويضيف هؤلاء إن اتجاهاً واضحاً خلصت إليه دوائر الفاتيكان، بأنه إذا كان الصراع الأساسي الذي طبع الأعوام المئة الأخيرة من الألفية الثانية، كان صراع الليبرالية مع الماركسية، فإن صراع الألفية الراهنة في عقودها الأولى، سيكون المواجهة بين الليبرالية نفسها والأصوليات الدينية المتطرفة. ويؤكد هؤلاء أن هذا الاتجاه هو ما عبّر عنه بندكت السادس عشر في محاضرته في ريغينسبورغ في أيلول الماضي، فبمعزل عن السجال العنيف الذي دار يومها حول الموضوع، وبعيداً عن التأويل والتفسير، ظلت الخلاصة المثلى للمسألة، ما كتبه يومئذ آخر رؤيويي الكلمة جوزف سماحة، من أن راتزنجر وجّه رسالته البليغة: إذا كان كارول فوتييلا قد كرّس نفسه بابا الصراع مع الماركسية في زمن جدلية التاريخ للألفية الماضية، فها أنا اليوم بابا الصراع مع الأصوليات في جدلية الألفية الراهنة.
ويؤكد المتابعون أنفسهم أن مغزى هذه الرسالة عُمّم في الفاتيكان وفي دوائره المعنية به. وخصوصاً في المجامع المختصة بشؤون الكنيسة في أوروبا وفي الشرق. علماً أن اجتماعات عدة ولقاءات دورية واستثنائية عُقدت في روما. وخصّصت لدراسة المسألة: مصير المسيحية في العالم، وتحديداً في أوروبا والشرق، والمخاطر التي تواجهها.
ويلاحظ المعنيون أن ما يعني لبنان في هذه القضية تزامن مع تطورات مقلقة، من العراق الى فلسطين، مروراً بجبل الأرز، كما يسميه التقليد البيبلي. وفي خضمّ هذا التزامن، جاءت أخطاء وهفوات كثيرة، لتزيد القلق الفاتيكاني. فالسياسات الأميركية في بغداد مثلاً، انتهت الى هجرة جماعية لمسيحيي العراق، وفي طليعتهم الكلدان الكاثوليك. علماً أن روما تابعت عن كثب مسألة البحث في عدم «إبادتهم»، عبر محاولة أخيرة بين تقاطعات الجغرافيا العراقية المتفجّرة، لإيجاد ملاذ آمن لهم على التماس الشيعي ــــ السني ــــ الكردي، في منطقة عنكاو وجوارها، وذلك بتنسيق مع واشنطن لم يثمر نهائياً بعد.
أما لبنان، فشكل منذ تشرين الأول عام 2005، موضع بحث فاتيكاني معمّق. يومئذ عُقد في الفاتيكان سينودس كنسي حضره جميع أحبار الشرق الكاثوليك. كانت بيروت قد أبلّت نهائياً من أعوام الوصاية السورية. غير أن المنظومة الحريرية كانت قد أحكمت قبضتها على السلطة التشريعية عبر قانون انتخاب الحريري ـــ كنعان، ثم على السلطة التنفيذية نتيجة تكريس التحالف الرباعي الذي أقصى المسيحيين، وبدأت تعلن جهوزيتها للإطباق على بعبدا وابتلاع الرئاسة الأولى. هكذا وسط سيل الانتقادات المرفوعة من الكنيسة اللبنانية، عقد السينودس في روما. لكن الأصابع الحريرية الحاضرة في الكرسي الرسولي دخلت على الخط. وفي مناورة منها لاستيعاب الموضوع، تم الاستنجاد بباريس الشيراكية لتهدئة المخاوف الفاتيكانية واللبنانية على السواء. هكذا انتقل يومئذ الوزير السابق غسان سلامة من فرنسا الى إيطاليا، وعقد لقاءه المغلق الشهير مع الأحبار المشرقيين، وأعطى قراءته «الواقعية»، وانفجر الوضع.
بعدئذ اختلى سلامة بالبطريرك الماروني مرتين طويلتين، الأولى طرح تصوّره والثاني ظل على تمسكه بالدور والحضور والمناصفة.
يومها انتهى اللقاء الفاتيكاني المغلق الى ثلاث نتائج: اقتناع حريري بضرورة اللجوء الى وسائل أخرى لاستيعاب بكركي. واقتناع بطريركي بأن حلم السيادة والتوازن قد سقط. واقتناع فاتيكاني بأن الوضع المسيحي في لبنان بات أدق من المرحلة السابقة.
طيلة الفترة الماضية، دأب مسؤولو الفاتيكان على إثارة الموضوع مع الأميركيين ومع الفرنسيين ومع الكنسيين اللبنانيين. ولم يمرّ سياسي أو روحي بروما، إلا وسمع كلاماً صريحاً عن الخطر الجديد على مسيحيي لبنان بعد جلاء النظام السوري، كانت واشنطن أمام خيارين، إما إقامة نظام توافقي تعددي، يمثّل نموذجاً مشرقياً لحوار الحضارات بدل صدامها، وإما إقامة نظام إسلامي سني أميركي الهوى والمصالح، يمثّل نموذجاً تمهيدياً لقبول الوجود الأميركي في المنطقة. لأسباب وأخطاء كثيرة، يبدو أن واشنطن اعتمدت الخيار الثاني. وبالتالي فالخطر كبير، وعلى بكركي أولاً والمسيحيين واللبنانيين عموماً الاستعداد للمواجهة، تحت طائلة البلقنة أو الأفغنة أو العرقنة، أو اللبننة مجدداً.
«أسلمة لبنان» عبارة سمعها السياسيون والروحيون في الفاتيكان. و «أسلمة أوروبا»، عبارة ملازمة سمعها زوار الكرسي البطرسي في الحلقة السياسية والدبلوماسية الأوسع. قد تكون صراحتها جارحة، لكن المشكلة تظل في دقتها وصوابيتها لوصف الواقع.
قبل فترة كتب مسؤول روحي غير لبناني الى نظيره، مشجعاً على عمل ما من أجل «الدعوة الى الكتاب والسنّة». وزكّى مسؤول لبناني آخر في العمل نفسه، بكلام أكثر جرأة وصراحة ودقة. وها هو أول الغيث.