strong>غسان سعود
  • الطبيبة الألمانية سكنت بيروت واعتنقت القضية الفلسطينية

  • بعيداً من الإعلام، اهتمّت وزيرة التعاون الاقتصادي والتنمية الألمانية فيتشوريك تسويل خلال زيارتها الأخيرة لبيروت بالاطّلاع على تفاصيل مشروع بناء مدرسة متطورة للأطفال ذوي الحاجات الخاصة. مشروع تقف خلفه فالي مرهج سيدة في العقد السادس من عمرها قصدت لبنان قبل أربعين عاما

    بعد شهور قليلة من إنهائها دراسة طب الأطفال والتخصص في مشاكل الأطفال النفسيّة، وقّعت فالي عقد عمل في مستشفى سان شارل بورومي الألماني، وقد كان في نهاية الستينيات قائماً مكان فندقي فينيسيا والهوليداي إن.
    انتقلت مطلع عام 1967 إلى بيروت، وبدأت بالتعرف باللبنانيين وقضاياهم المتنوعة. كانت تبلغ الثامنة والعشرين من عمرها، واكتشفت بعد عودتها إلى بلدها ألمانيا أن الحياة البيروتية تستغويها بالكامل، فرجعت لتستقر في هذه المدينة وتتزوج مستفيدة من انسجامها مع البيروتيين في حياتهم الهادئة، ومطمئنة إلى أن حروب كبيرة ـــــ كالتي اختبرتها في تشيكوسلوفاكيا حيث ولدت ـــــ لن تقع في هذه المنطقة. وكانت فالي قد اضطرت خلال الحرب العالمية الثانية إلى النزوح مع آلاف الأطفال الذين هجروا منازلهم. فتشردت كثيراً قبل أن تصل إلى النمسا ثم تنتقل إلى ألمانيا بلد والدتهالا زالت عيون فالي تتفاعل عبر بريق خافت عندما تتذكر أنها كانت الوحيدة في صفها التي تملك والداً على قيد الحياة بعدما خطفت الحرب معظم الرجال. والصبية التي جاءت إلى بيروت وجدت نفسها مطاردة من الحرب مجدداً. وها هو القصف الأول الذي طال منطقة رأس بيروت يعدها بأيام لاحقة تصبح فيها الحرب وكل مآسيها جزءاً من الروتين اليومي. قررت فالي البقاء في بيروت والاعتناء بأولادها مستفيدة من قرب منزلها من الحمام العسكري بعيداً من خطوط التماس، فظل أبناؤها يقصدون مدارسهم وثم جامعاتهم من دون انقطاع. غير أن رصاص القناصة منعها من التوجه إلى مستشفى سان شارل في الفياضية حيث كانت تعمل. ولاحقاً دعتها صديقتها نبيلة نشاشيبي لمساعدتها في نقل ثلاثة أطفال نجوا من «مجزرة تل الزعتر» كما تصفها. فكانت هذه الخطوة الأولى التي مهّدت لها التعرف بالناشطين في مؤسسة الهلال الأحمر الفلسطيني وبالطبيب فتحي عرفات. وسرعان ما تطوعت للعمل مجاناً في مستشفى الناصرة على طريق المطار القديم. والدافع، كما تؤكد، كان إنسانياً أكثر منه سياسياً، وخصوصاً أن الحرب أثارت في داخلها صور طفولتها، ومن الصور دخول المحتلين إلى بنايتها ومداهمة الشقق والقضاء على كل من في داخلها، وقد نجت هي ووالدتها وصديقتهما لاختبائهن في مكان صغير معد أصلاً لحفظ مياه الشرب. إضافة إلى شعورها الدائم برائحة الدم الذي كان يملأ قطاراً انتقلت فيه من النمسا إلى ألمانيا برفقة عائلتها ومئات الجثث.في مستشفى الناصرة، بدأت العمل عام 1975 من دون أجر، لكنها بعد عام طلبت تقاضي راتب صغير لأنها أيقنت استحالة معاودة العمل في السان شارل. وترأست منذ عام 1976 إدارة «الناصرة» ثم مستشفى رام الله لاحقاً، وتكثفت جهودها بعد عام 1982 إثر مغادرة معظم الأطباء الأجانب الذين كانوا يعملون معها، وذلك في محاولة منها لتعويض النقص. وبقيت في «رام الله» حتى عام 1987 حين قررت التفرغ للتعليم في الجامعة الأميركية في بيروت والاهتمام بجمعية «فيستا» الاسم المختصر لـ first step together.
    لاحقاً، إثر انتهاء الحرب، قررت فالي نسيان المآسي التي شهدتها، وآمنت بقدرة اللبنانيين من «الغربية والشرقية على العيش معاً». لكن التشنجات السياسية المستمرة، بحسب فالي، غالباً ما تعوق إصرارها على تخطي ذاكرة الحرب، وتستعيد كلما سمعت سجال السياسيين الصور البشعة. تروي فالي معاينتها في «الناصرة» ذات مرة سيدةً حاملاً بَقَر المقاتلون بطنها لمجرد أنها من طائفة معينةوتُعدّد بضعة حوادث مماثلة، وحين تُسأل عن مجزرة صبرا وشاتيلا، تصمت وتطلق تنهيدة طويلة ثم تقول إن ما حدث في هذين المخيمين الفلسطينيين لا يمكن وصفه أبداً، وتكتفي بالإشارة إلى «بقايا»، مرددةً جملاً محاولةً منها إقناع نفسها بأن من ارتكبوا تلك الفظائع لم يعوا فعلتهم. وتلفت إلى أن «بعض المنظّرين اليوم في الوطنيّة، كانوا مشاركين في تلك المذبحة». وتستغرب في هذا السياق أن تستقبل الدول الأوروبية هؤلاء، وتعاملهم كرجال سلام وديموقراطية، فيما الدم البريء ما زال يُغشي أياديهم. «كل فلسطيني، كل مهجّر من أرضه، يذكّرني بطفولتي، وأشعر أنني معنيّة بمأساته» تقول فالي. وبين الكلمات، تبدو القضايا الإنسانيّة، ومعاناة الأطفال خصوصاً، عالقة في حلقها، وبسرعة ينعكس شعورها الانساني الدافئ بريقاً لامعاً في عينيها، وتردد بصوت خافت أن الحق، في النهاية، سينتصر.
    عام 1989 قدمت فالي الأوراق الرسمية لترخيص «فيستا». وكانت قد بدأت الاهتمام بتطويرها منذ عام 1974. لكن الأوراق بقيت في أدراج وزارة الداخلية والبلديات حتى عام 1992. وتُعنى هذه الجمعية بالأولاد والمراهقين ذوي الحاجات الخاصة على المستوى الذهني (تخلّف عقلي بسيط، متلازمة الداون، إضافة إلى مشاكل مدرسيّة وتربويّة وسلوكيّة). ونجحت «فيستا» خلال العام الماضي بإيصال شاب إلى صف الثالث المتوسط وقد نجح في الشهادة المتوسطة. ووفّروا لخمسة عشر شاباً القيام برحلة إلى ألمانيا للتعرف عن قرب بالاتحاد العالمي لكرة القدم. وتشدد فالي على تميز جمعيتها عن معظم الجمعيات الأخرى بديموقراطيتها وتغيّر قيادييها كل بضع سنوات، مؤكدةً رغبتها في الاستقالة ومتابعة نشاط الجمعية من بعيد بعد الانتهاء من تأسيس المدرسة. وتقول في هذا الإطار إن العمل يسير ببطء لعدم وفرة الأموال، وسعي أعضاء الجمعية الدؤوب لصرف أموالهم «في المكان المناسب ليستفيد الأطفال لا السماسرة والتجار». المدرسة قيد الإنشاء في بلدة الديشونيّة ـــــ المنصورية، تهدف إلى استيعاب الأولاد ذوي الحاجات الخاصة الذين يعانون مشاكل سلوكيّة، تعلميّة، وتأخّراً في النموّ. وإضافة إلى فيستا، حافظت فالي على نشاطها في «بيت أطفال الصمود» لإعجابها بعمل هذه المؤسسة التي تركّز بشكل خاص على الأطفال الذين فقدوا أهلهممن جهة أخرى، تستغرب فالي، التي تضع انتماءها اللبناني كأولوية، حماسة اللبنانيين للحياة في ألمانيا أو أية دولة أوروبية أخرى، مؤكدة أن الحياة في لبنان أجمل وأسهل بكثير مما هي عليه في الدول الأخرى. وتأسف لإصرار البعض على المقارنة من زوايا ضيقة، مؤكدة أنها باتت لبنانية على رغم تحفّظها على عدة عادات يتصف اللبنانيون بها عادة.
    تستعيد فالي قرابة أربعين عاماً في بيروت، فتقول إنها استفادت من جنسيتها الأجنبية لتحقق ما تُمنع أحياناً اللبنانيات من تحقيقه. يصعب عليها انتقاء أجمل اللحظات في بيروت، وترفض الكلام كغريبة أو كغير لبنانيّة. تقول إنها عربية أولاً. عربية لبنانية مؤمنة بنضال القضية الفلسطينية. تمتنع عن وصف أعمالها بالإنجازات الإنسانيّة، وتكتفي بالتمنّي لو يلتفت كل إنسان إلى الإنسان الصغير الذي يسكنه.




    أسئلة عن المقاييس الغريبة

    تُعنى فالي بالقضية الفلسطينية، تدور في كلامها ولكنها تعود دائماً إلى فلسطين، والقدس، والنضال، وأحقاد الاسرائيليين، ومآسي الفلسطينيين، وجمود مشاعر العالم. حين تتحدث عن أيامها الأولى في لبنان، تستعيد ببطء كيف كان اليهود يعيشون وسط اللبنانيين من دون أن يضيّق عليهم أحد. وتصف بدقة أسواقهم ومنازلهم وكنيستهم، آسفة لانحيازهم العنصري لاحقاً، الأمر الذي زاد شكوكها في قدرة هؤلاء على العيش بسلام. وتسأل فالي كيف يعقل لأحدهم أن يقول إن هذه الأرض لجد جدي، ومن حقي أن أطرد أهلها وأعيش فيها، مختصرةً المشكلة بتغيير المقاييس واختفاء الأبيض والأسود أمام المال وقوة السلاح. تأسف لمعاملة الفلسطينيين في لبنان بعنصرية، ولحجزهم داخل رقعة صغيرة من الأرض، لمنعهم من العمل أو التملك.