div style="padding:6px;border-style:outset">
دراسة
تحاول هذه الدراسة التي ننشرها على حلقتين إلقاء الضوء على الاستعدادات والتقنيات القتالية التي استخدمها حزب اللّه والجيش الإسرائيلي في حرب تمّوز. في الحلقة الأولى، يركّز الكاتب على المنهج الذي اتّبعه حزب الله والاختلاف بينه وبين ما اتّبع في مواجهات 1993 و1996، فيما تخصّص الحلقة الثانية لاستعدادات الجيش الإسرائيلي
منذ حرب الاستقلال، نظر العرب إلى جيش الدفاع، إذا ما أمكن تعميم ذلك، على أنه جيش مناور، أي مبني على النار والحركة السريعة لقوات كبيرة. وهكذا، ولغاية التسعينيات، فإن المعارك والعمليات الكبيرة التي أدارها الجيش، ما عدا حرب الاستنزاف، ارتكزت على جهود برية واسعة. بدءاً من حرب سيناء 1956 وصولاً إلى حرب لبنان الأولى عام 1982، عملت قوات المشاة والمدرعات الإسرائيلية في عمق أراضي الخصم، ومن المراحل الأولى للقتال.
كان ينظر إلى الجهد الجوي في البداية كمساعد فقط، وبعدها كجهد مواز، مهماته تحقيق تفوق جوي وتدمير منظومات المضادات الجوية وصواريخ أرض أرض لدى العدو، وأخيراً مساعدة القوات البرية.
بدأ هذا المفهوم بالتغير في التسعينيات. المعركة الجوية التي أدارتها الولايات المتحدة في العراق في حرب الخليج الأولى، وبعدها المعركة التي أدارها الناتو في كوسوفو، عرضت نموذجاً قتاليا آخر كان الجهد الجوي في مركزه. ويبدو أنه منذ هذه المرحلة، تغيّر الوزن المعطى لمفهوم معارك جيش الدفاع لاستخدام النيران الجوية والمدفعية. فنظراً لقلة المصابين في هذه المعركة، وطابع التكنولوجيا الدقيقة للحرب والقدرة على الاستناد إلى التفوق التكنولوجي الإسرائيلي، تم تبني هذه النظرية الحربية.
طابع القتال هذا، الذي يحتل الجهد الناري فيه جوهر المعركة، تمت تجربته بنجاح في مواجهة حزب الله عام 1993 في عملية تصفية الحساب. كانت مفاجأة هذا التنظيم في هذا السياق كبيرة. فالمقاتلون الشيعة استعدّوا لمعركة برية وقتال وجهاً لوجه مع العدو الصهيوني، وبدلاً من ذلك اصطدموا بمعركة مختلفة تماماً. معركة دار معظمها في مجال أبعد من متناول يدهم ـــــ من الجو، من خط الحدود، من داخل مواقع جيش الدفاع في الحزام الأمني. بعد هذه المعركة استخلص حزب الله العبر ووصل إلى المواجهة القادمة مستعداً بشكل أكبر. «هكذا خلال عملية عناقيد الغضب، في نيسان 1996، استند هذا التنظيم بالأساس إلى الكاتيوشا التي أطلقها على المستوطنات المجاورة للحدود.
في الوقت ذاته تواصل في جيش الدفاع التفكير الذي تركّز على الجهد الناري... وعليه، أيضاً في هذه المعركة، كان جوهر قتال الجيش بواسطة سلاح الجو والمدفعية. كانت العمليات البرية محدودة، وخاصة عمليات القوات الخاصة في مناطق إطلاق الصواريخ. إدخال هذه القوات تم فقط بعدما فشل الجيش بنسبة كبيرة في تقليص حجم الإطلاق باتجاه الداخل الإسرائيلي.
على أية حال، بالنسبة إلى حزب الله، على المستوى العملي، وبدون صلة بالنتائج السياسية للمواجهة، انتهت جولة قتال عام 1996 بنجاح نسبي.
كان بالإمكان استخلاص دروس كثيرة في المجال اللوجستي (نقص الوسائل القتالية) وأوجه القيادة والسيطرة المختلفة. ولكن عموماً، نجح هذا التنظيم بإطلاق صواريخ الكاتيوشا حتى لحظة وقف إطلاق النار.
الاستعداد العملياتي لحزب اللهمع انتهاء المعركة عام 1996 ولغاية عام 2006، تهيّأ حزب الله، بمساعدة قوية من إيران، لجولة القتال القادمة. ووقفت أمام ناظريه عدة منطلقات أساس، شكلت قاعدة وأساساً لبناء قوته العسكرية. وهذه المنطلقات تم اشتقاقها من جولات القتال السابقة ومن التطورات العسكرية والسياسية التي جرت في الأعوام الأخيرة.
وقف في مركز مفهوم هذا التنظيم، الاعتقاد بأن المجتمع الإسرائيلي ضعيف غير قادر على «استيعاب» عدد كبير من الإصابات. وهذا الضعف هو الذي قاد، حسب رؤية حزب الله، إلى الانسحاب الإسرائيلي من الشريط الأمني.
التعبير الصريح عن هذا المفهوم أعطاه حسن نصر الله في خطاب الانتصار، الذي ألقاه في بنت جبيل في 26/5/2000 فور الانسحاب الإسرائيلي من لبنان، بعد أن شبّه قوة المجتمع الإسرائيلي والجيش بخيط العنكبوت.
على المستوى العملي، ظهر تعزز وسط صانعي القرارات في هذا التنظيم، للفهم بأن قتال جيش الدفاع سيستند في المستقبل أيضاً إلى الاستخدام الكثيف لسلاح الجو والمدفعية. وقد أخذ هذا الفهم قوته، لا في جولات المواجهة السابقة فقط، بل وبنسبة كبيرة من إدارة الجيش في السنوات الأولى للانتفاضة ـــــ الامتناع عن استخدام القوات البرية بحجم واسع (لغاية عملية السور الواقي على الأقل) والاعتماد على سلاح الجو والقوات الخاصة بحجم محدود.
وفقاً لهذه المنطلقات، أي ضعف المجتمع الإسرائيلي واعتماد الجيش على المعركة بالنار، بنى حزب الله قوته. وحسبما يتضح من جولة القتال الحالية، فقد كان الهدف العملي الأساسي لهذا التنظيم، إدارة حرب استنزاف ضد العمق الإسرائيلي. وبناءً عليه، فقد وقفت في مركز مفهومه القتالي الذي بلوره، الحاجة إلى خلق وإنتاج نار داخل دولة إسرائيل، أعمق ما يمكن، وطيلة فترة القتال. وذلك أيضاً إزاء القصف المكثف أو العمليات البرية للقوات الخاصة.
يبدو أن حزب الله بلور ثلاث أو أربع منظومات قتال رئيسية: منظومة مدفعية ذات مدى قصير، مستندة بالأساس إلى صواريخ الكاتيوشا، وهدفت هذه المنظومة إلى حمل جوهر العبء وخلق الحد الأقصى من النار داخل دولة إسرائيل وعلى تخومها.
وأقيمت إلى جانبها منظومة مدفعية ذات مدى متوسط جنوب الليطاني (أطلقت هذه المنظومة الجزء الأكبر من الصواريخ على العمق الإسرائيلي) ومنها صواريخ سورية بقطر 220 ملم وكاتيوشا ذات مدى أبعد.
وإلى جانب هذه المنظومة، عملت على ما يبدو منظومتا صواريخ ذات مدى بعيد، 250 كلم، في المنطقة الواقعة ما بين الليطاني وبيروت (حسبما كشف مثلاً عندما هاجم سلاح الجو قاذف زلزال في بيروت).
هدفت هاتان المنظومتان إلى بناء سلاح ردع استراتيجي، وتمكين حزب الله من الضرب «بوجبات» متغيرة ومختلفة في البطن الرخو لدولة إسرائيل (منطقة حيفا/ تل أبيب).
إلى جانب هذه المنظومات الثلاث أو الأربع، أقيمت إلى الجنوب من الليطاني منظومة برية استندت إلى الأنفاق والتحصينات تحت الأرض، ومساحات لعبوات ومجموعات مضادة للدروع، وهدفت إلى مواجهة القوات البرية بحجم محدود، وتأخير دخول بري وإيقاع خسائر كبيرة قدر الإمكان، وذلك بغية استنزاف قوات الجيش وإبطاء تقدمه والتمكين من مواصلة إطلاق الصواريخ إلى داخل إسرائيل.
هذه البنية التحتية العملية، كان يفترض بها، على ما يبدو، أن تكون أيضاً قاعدة لاستمرار القتال إذا ما أعاد الجيش احتلال أجزاء من جنوب لبنان، سيناريو الأقل معقولية ولكن الأخطر بنظر حزب الله.
على المستوى التكتيكي، من أجل مواجهة طابع ونمط القتال المتوقع لجيش الدفاع، اختار هذا التنظيم اتباع ثلاث طرق أساسية:
* إغراق المنطقة بصواريخ ذات مدى قصير: أوجد حزب الله في الأعوام الأخيرة احتياطياً من آلاف قاذفات الكاتيوشا. وكل ذلك من أجل خلق وضع لن يضر معه تفجير قواذف محدودة أو حتى عشرات القواذف على الاستمرار بمواصلة جهده الناري. ووفقاً لذلك، تم توزيع هذه القاذفات في القرى أو في المناطق المفتوحة. وفعلاً مكّن هذا الأمر التنظيم من المحافظة على بقاء المنظومة ومواصلة إيجاد نيران كثيفة داخل إسرائيل (متوسط أكثر من مئة صاروخ يومياً) طيلة أيام القتال.
* الحركة: وفقاً لتقارير مختلفة، يبدو أن غالبية الصواريخ التي أطلقت لمسافات متوسطة (حيفا/ العفولة/ بيسان) أطلقت من قواذف متحركة (منصة إطلاق مركبة على شاحنة). ويبدو أن هذه القاذفات هدفت إلى تمكين مقاتلي هذا التنظيم من إطلاق الصواريخ والاختفاء قبل أن توجه إليهم النيران الجوية أو المدفعية نحو مكان الإطلاق. وهذه الطريقة فشلت فشلاً ذريعاً. فحسب تقارير سلاح الجو، تم تدمير كل قاذف متوسط، تقريباً، أطلق باتجاه إسرائيل.
* إعداد مسبق لبنى تحتية لوجستية وبرية لإدارة حرب طويلة: وشملت هذه البنية مستودعات وسائل قتالية كثيرة جنوبي الليطاني، وإلى جانبها أبنية تحت الأرض متفرعة من التحصينات والمخابئ. وقد هدفت إلى المحافظة على صمود المقاتلين أمام الهجمات الجوية والمدفعية، وتمكينهم من العمل طيلة الوقت.
في أوجه القيادة والسيطرة، أوجد هذا التنظيم أنموذجاً مختلطاً: فقد وقفت في أساس استعدادات العملية بنية تنظيمية هرمية صارمة وصلبة. ووقف على رأس الهرم حسن نصر الله، وإلى جانبه المجلس الجهادي، أي هيئة أركان حزب الله، وتحتهم وحدات وتشكيلات مبلورة ومنتظمة. وهذه البنية هي التي مكّنت هذا التنظيم من السيطرة طيلة مراحل القتال على كمية النار وارتفاع اللهب، وعلى الوحدات التي تطلقها وعلى عمق الإطلاق إلى داخل إسرائيل. وهكذا، على سبيل المثال، أوقف حزب الله عمليات الإطلاق في الـ48 ساعة من الهدنة وجدّد الإطلاق بعد ذلك فوراً.
وعندما دخل اتفاق وقف النار حيّز التنفيذ، مكّنت هذه المنظومة من وقف النار بدون أية خروقات. في الوقت ذاته، اختار هذا التنظيم استخدام منظومته النارية المتوسطة، جنوبي الليطاني، فقط بعد بضعة أيام من القتال، بينما لم تستخدم منظومته الصاروخية البعيد المدى، إطلاقاً.
من الممكن أنه في نموذج سيطرة آخر، لم يكن حزب الله لينجح بنفس المستوى في السيطرة على المنظومات النارية المكثفة التي طوّرها في لبنان.
بذل هذا التنظيم جهداً وأنفق الكثير على بنى تحتية عصرية للقيادة والسيطرة، مثل إقامة غرف قيادة وسيطرة متطورة كشفت أثناء عمل جيش الدفاع في بنت جبيل. ويدلّ ذلك على طموحه لإدارة القتال بأسلوب منظم. وفي الوقت نفسه، إلى جانب بنيته الهرمية، يبدو أنه أعطى لمنظومة القتال البري حرية عمل كبيرة.
يعود السبب الرئيسي في ذلك إلى الدور الثانوي الذي خصص لهذه المنظومة، أي تأخير وإعاقة الجهد البري وإيقاع الخسائر، وأعتقد أيضاً أن زعماء حزب الله قدّروا أنه أثناء الجهد البري لجيش الدفاع، لن يستطيعوا السيطرة على عدد كبير جداً من الحوادث التكتيكية، التي تعد أهميتها للمعركة الشاملة، ضئيلة أصلاً.
سهّل انسحاب جيش الدفاع من لبنان بناء القوة العسكرية لهذا التنظيم بنسبة كبيرة. ومكّن الهدوء النسبي على الحدود الشمالية حزب الله من توجيه جوهر اهتمامه العملي إلى الاستعداد والتأهب للمعركة المقبلة، من دون أن يشغل نفسه بقتال عام، كان هو جوهر عمله لغاية عام 2000.
علاوة على ذلك، يمكن الافتراض أنّ الوجود على خط الحدود نفسه أثمر استخبارات ومعلومات عن أهداف على مستوى عال. وقد ارتكزت هذه الاستخبارات على وسائل مراقبة متطورة، وكذلك على استخدام عملاء في تخوم دولة إسرائيل حسبما تدل قضايا التجسّس المختلفة التي كشفت في الأعوام الأخيرة. ومن بينها اعتقال أخوين من سكان قرية الغجر شغلهما هذا التنظيم في نهاية عام 2003 وكذلك اعتقال الجندي الإسرائيلي أحمد الهيب في تشرين الثاني من عام 2004 والمقدم عمر الهيب في شباط 2002، وكلاهما مشتبه في نقله معلومات إلى حزب الله.
إضافة إلى كل ذلك، فإن منظومة الصواريخ القصيرة المدى التي انتشرت على خط الحدود الدولية، مكّنت هذا التنظيم من إدخال مناطق مدنية كثيرة في إسرائيل في مدى نيرانها، التي كانت لغاية انسحاب جيش الدفاع خارج متناول يد حزب الله، مثل صفد، وطبريا بل وحتى حيفا التي أطلقت عليها صواريخ متوسطة المدى ذات قطر 220 ملم و302 ملم، وكذلك صواريخ يصل مداها إلى ما بين 27 و35 كلم.
الكاتب
أمير كوليك (باحث زائر في معهد بحوث الأمن القومي ـ جامعة تل أبيب)
المصدر
عدد خاص من نشرة التقدير الاستراتيجي الصادرة عن معهد أبحاث الأمن القومي (جافي سابقاً) التابع لجامعة تل أبيب (تشرين الأوّل 2006)
اجزاء ملف "حزب الله في مواجهة الجيش الإسرائيلي":
الجزء الأول |
الجزء الثاني