ربى أبو عمو
تفرض عليك البلدات الجنوبية الحدودية إطفاء المذياع داخل السيارة هرباً من الإذاعات الإسرائيلية التي تخترق موجاتها أغنيات فيروز ونصري شمس الدين، وحتى دانا.
هذا الصمت الذي يحضر فجأة يعيدك بسرعة إلى صور حرب تموز. وبالرغم من أن الصواريخ في ذلك الوقت كانت تحاول إنهاء معالم الحياة في البلدة، إلاّ أن الشمس كانت تطلع في اليوم التالي، وها هي متوهّجة كعادتها في تموز.
بحوزة الزميل وائل مجموعة من الصور التي التقطها السنة الماضية. صور من دون أسماء، قصدنا بنت جبيل للبحث عن أصحابها. في حيٍّ يتفرّع من سوق البلدة، جلسنا مع أبو حسن في دكّانه لنتعرّف إلى صور الأهالي. في إحداها، ظهرت المعلّمة حنان، التي كانت قد خرجت في مثل هذا اليوم من العام الماضي بحثاً عمّن يساعدها في إخراج زوجها وشقيقته من تحت ركام منزلهم، وتطوّع الزميل عمر نشابة للمهمة.
صعد معنا في السيارة أحد شباب الضيعة. يعرف حنان جيداً ويتذكّر بيتها «علّمتني حين كنت صغيراً». الدمار لا يزال حاضراً في الطريق المؤدية إلى منزلها. عندما وصلنا قال لنا أحد الأولاد إن حنان لم تعد تقطن في بيتها القديم، وأرشدنا إلى عنوانها الجديد.
وجدنا منزل المعلّمة حنان، عرفه الشاب من سيارتها الزرقاء المركونة على حافة الطريق خارج البيت. نزلنا بضع درجاتٍ لنصل إلى الباب الرئيسي الذي كان مفتوحاً. طرقنا عليه عدة مرّات، وإذا بامرأة تبدو حركتها ثقيلة، ووجهها من دون ملامح، ترتدي ملابس نومٍ زهرية وشعرُها القصير يصل إلى حدود رقبتها، كأنه هو الآخر لم يعد قادراً على مواكبة الحياة، فاستسلم...
شهرة حنان في بنت جبيل تجعلك تسأل للوهلة الأولى إن كانت هي المعلّمة الوحيدة في الضيعة، لكن الجواب يأتيك على الفور بأنها أقدمهم. ما زالت تتذكّر عمر الذي ساعدها على إخراج زوجها وأخته من تحت الركام، من دون أن تعرف اسمه، إذ حاول إخفاءه لأنه «عمر»، هكذا ببساطة.
قادتنا إلى غرفة الجلوس وانسحبت بضع دقائق، ثم عادت، وقد ارتدت عباءة وحجاباً، وسارعت إلى تبرير هذا التبدّل قبل سؤالنا بعدما بدا الاستغراب على ملامحنا، فقالت: «لا تستغربوا، أصبحت غير قادرة على التركيز. زوجي يعاني الآن مرض فقدان الذاكرة، وأنا قصدت عدداً كبيراً من الأطباء النفسيين من دون فائدة. أعتمد اليوم على الحبوب المهدّئة لمواصلة حياتي. كان بيتي قصراً من ثلاث طبقات، والآن أعيش في منزل من ثلاثة غرف».
حركاتها بطيئة كما كلامها. تجلس على الكنبة وتروي قصّتها بأدق التفاصيل، كأنها تمثّل جريمة أمام القضاء، مع فارق كونها ضحية. تخال من طريقة سردها أن قصتها لن تنتهي. تقول: «لم يعد هناك أي ذكريات»، كأنها تحاول القول إن الحاضر من دون ماضٍ هو كذبة.
تعود إلى نهار الأسر. يوم 12 تموز، «فرحت كثيراً بالعملية، وكانت ابنتي قد غادرت بنت جبيل إلى بيروت، ولدى وصولها إلى جسر القاسمية بدأ القصف الإسرائيلي، فعادت إلى الضيعة».
في الأسبوع الأول للحرب لم يطاول القصف أطراف الضيعة حيث كانت تقطن حنان. ارتأت وعائلتها النزول إلى الطابق السفلي للمنزل علّه يكون أكثر أماناً. اعتمدوا خلال هذه الأيام على التلفاز لمتابعة الأخبار، إلى حين انقطاع الكهرباء كلياً، فكان المذياع هو البديل. ولم يشكّل الطعام مشكلة بالنسبة إليهم في البداية، إذ اعتمدوا على طهو الحبوب التي تموِّنها غالبية الأهالي.
في 25 تموز، اشتعلت النار في مجموعة من الأخشاب في أعلى المنزل، التي كانت قد وضعتها بالقرب من قوارير غاز. خرجت وابنها من البيت وحاولا حصر النار بها حتى لا تمتدّ. وفي اليوم التالي، سقط صاروخ على الطابق العلوي للمنزل، أدى ألى أضرار في مواسير المياه. «أصبحنا من دون ماء»، تتذكّر حنان كأنها تعيش التجربة مجدداً.
فجر 26 تموز، استيقظوا على صوت أقاربهم الهاربين من القصف الذي طال منزلهم. وفي اليوم ذاته سقط صاروخ بالقرب من الصالة التي كانوا يختبئون فيها. قرّر زوج حنان الصعود إلى الطابق العلوي لتفقد مكتبته. عاد شاحباً، فقد ذابت مكتبته. بلمح البصر اختفت الكتب التي شكّلت شخصيته وفكره. لم يقتصر الذوبان على المكتبة، بل تحوّلت غالبية البيت إلى رماد.
في يوم الهدنة، خرج الجميع من المنزل باستثناء زوج حنان وأخته المشلولة، لأنه كان عاجزاً عن حملها، وأبى أن يتركها وحيدة. في سوق بنت جبيل، تجمّع الناس للسير إلى تبنين. أمّنت حنان ابنها المشلول في سيارة، وأكملت هي سيراً إلى هناك حيث اطمأنّت إلى وصول نصف أولادها إلى صيدا، إذ إن بقية أولادها الستة كانوا في بيروت. بعدها عادت، سيراً على الأقدام أيضاً، إلى بنت جبيل لتحاول إنقاذ زوجها وشقيقته.
غدَت حنان اليوم امرأة محطّمة نفسياً. لا أفق للمستقبل رغم توافر مقوّمات الحياة الأساسية. لم تحصل بعد على المال لإعادة ترميم ما بقي من منزلها. ولكونها امرأة مثقفة هي لا تزال تتابع حياتها الروتينية، تقرأ الصحف على الإنترنت، لكن من دون أدنى رغبة في الحياة بعد أن جرّدتها الحرب من نفسها.