جان عزيز
بين اليوم الثلاثاء وغداً الأربعاء، تُستنفد الفرصة الأخيرة الممكنة نظرياً، لتجنّب المواجهة القاسية في المتن الشمالي. وهي الفرصة المتمثّلة في القرار المرتقب لمجلس شورى الدولة، في الطعن الذي قدّمه مرشح المعارضة الدكتور كميل خوري في مرسوم الدعوة إلى انتخابات 5 آب المقبل، والصادر عن الحكومة القائمة من دون توقيع رئيس الجمهورية، خلافاً للقانون والدستور.
علماً أن هذه الفرصة باتت الثغرة الوحيدة في وضعية مأزقية، تحمل طابع المعركة الحاسمة لأطراف ثلاثة: مجلس الشورى نفسه، الرئيس أمين الجميّل والعماد ميشال عون.
معركة حاسمة أولاً لمجلس شورى الدولة، لأنه، على غرار كل المؤسسات الدستورية الأخرى في الدولة، وفي غياب أي أنظمة جديّة تحفظ استقلال السلطة القضائية، ما دام قضاتها قد وزّعوا وفق احتساب الحصص السياسية، وما دام قد اعتبر قابلاً للتأثّر والتكيّف بمصالح النافذين. حتى إنه تردّد أن القرار الذي أصدره المجلس في 18 تموز الجاري بردّ الطعن الأول في مرسوم الانتخاب، جاء محاولة من القضاة الإداريين للهروب من الضغوط السياسية عليهم. وهم لذلك، قيل أيضاً، ذهبوا بعيداً في «هروبهم» فقطعوا الطريق على أنفسهم لأي مراجعة أخرى، حين أعلنوا في القرار المذكور، رقم 701/2006 ـــــ 2007، عدم صلاحية مجلسهم للنظر في الطعن، بدل الاكتفاء مثلاً بالقول بعدم صفة الطاعن الناخب، وبالتالي رد المراجعة شكلاً، مع إبقاء الباب مفتوحاً أمامهم، للنظر في المسألة نفسها في الأساس. هكذا أوصد مجلس الشورى الباب على نفسه، معتقداً بذلك أنه يحصّن ذاته وقضاته في وجه أي مراجعات أخرى. غير أن المسألة لم تلبث أن تطورت. إذ سرعان ما تبيّن للبعض أن موقف ميشال عون باللجوء إلى القضاء الإداري، ليس من باب رفع العتب أو تسجيل الموقف المبدئي. بل هو إصرار على تحصين صلاحيات رئاسة الجمهورية. ولما جاء قرار مجلس الشورى ليجهض هذا الهدف، قرر عون فوراً الذهاب إلى الانتخاب، وهذا ما أبلغَه إلى حلفائه في تكتله، وسط تفاجؤ بعضهم.
عند هذا الحد، عادت حسابات مجلس الشورى إلى نقطة الصفر. وازدادت تعقيداً بعدما دخل الصرح البطريركي على الخط، في مسعى قام به عدد من المطارنة الموارنة لتجنّب الانتخاب.
ويكشف مطّلعون على أجواء المباحثات السرية بين المعنيين، أن المطارنة المبادرين سمعوا كلاماً من أكثر من طرف، بأن الحل الوحيد الذي لا يزال متاحاً، هو الإبطال بواسطة مجلس الشورى. لا بل قيل إن ثمّة مَن أوحى إلى المطارنة بضرورة التدخل مباشرة على هذا الخط. وإزاء استهجان أصحاب السيادة للفكرة ورفضها رفضاً مطلقاً، انتقل السعي إلى قضاة المجلس أنفسهم. وفي هذا المجال توزّعت الآراء كما زعم بين موقفين: واحد يقول إن العودة عن قرار 18 تموز ستعني «تسكير» المجلس بداعي التناقض الجوهري، وبالتالي إلحاقه بالمجلس الدستوري المغيّب. وآخر يقول إن اجتهاداً جديداً كالمطلوب في هذه الحال، يقتضي غطاءً من جميع المعنيين، وتسليماً مسبقاً بعدم إطلاق النار عليه، وخصوصاً ضوءاً أخضر من بكركي نفسها. تماماً كما حصل مع الضوء الأخضر المكتوم، والذي أعطي لتغطية «اجتهاد» المجلس الدستوري في 4 كانون الأول 2002، والذي قضى بإبطال نيابة غبريال المر وإعلان فوز غسان مخيبر.
وتفيد المعلومات نفسها، أن ترتيباً وسطياً أعدّ على هذا الصعيد، ومفاده صدور تصاريح إعلامية عن عدد من المطارنة المعنيين، تشير بوضوح إلى أن الحل الوحيد الممكن هو لدى مجلس الشورى. وهو ما اعتُبر سقفاً أعلى لما يمكن مرجعية روحية قوله، وحدّاً أدنى مقبولاً لما يمكن سلطة القضاء الإداري التصرف من ضمنه.
غير أن هذه المعطيات كلها، ستظل في انتظار التطورات المتلاحقة في الساعات الأربع والعشرين المقبلة، لتأكيد صحتها أو عدمها، وبالتالي اتجاه الأمور.
والمعركة المتنية حاسمة ثانياً بالنسبة إلى الرئيس أمين الجميّل. وهي معركة فاصلة لدوره وحضوره متنياً وكتائبياً ولبنانياً. فالجميّل المرشح اليوم، خبر بالأمس ضرر الغياب عن ساحته المتنية، حتى في ظل العناصر المكوّنة لخطاب المقاومة والنضال والنفي وسائر مفردات الميلومانيا الشعبوية. فيوم اضطر الجميّل إلى النفي الطوعي أو القسري، تمكّن حتى أحد أنسبائه من الحضور على الساحة المتنية. فترشح الدكتور بول الجميّل منفرداً عام 1996، وحاز أكثر من عشرة آلاف صوت. وهو ما اعتبره البعض، السبب الرئيسي الذي حسم اتجاه الرئيس الجميّل إلى خوض انتخابات الألفين، أيّاً كان الثمن والظرف. وبالتالي فإن ما لم يحتمله «العنيد» في زمن مشروعية النضال في وجه الوصاية، لا يمكن أن يعيش معه في ظل إفلاس الخطاب السياسي في زمن السيادة، ولو للحظة، فكيف به لسنتين.
والرئيس الجميّل خبر الضرر نفسه نتيجة غيابه عن حزب الكتائب طيلة عقد ونصف عقد. وهو يدرك أن أي نكسة له في المتن يوم الأحد المقبل، ستزيد من تعقيدات وضعه الحزبي. وهي التعقيدات التي ظهرت عوارضها الأولى، مع رفض الكتائب تمرير ترشيح نجله الثاني سامي لخلافة شقيقه الراحل. وأيّاً كانت التبريرات المعطاة في هذا المجال، من حرص على دور الجميّل الأب، ومن ضنّ بفرص المعركة والفوز فيها، ومن تصوير لترشيح سامي كأنه «خدش» في الخطاب السياسي الكتائبي، نظراً إلى المانيفست الفدرالي للجميّل الابن الأصغر، عبر إطار «تحالف لبناننا»، غير أن الجميّل الأب أدرك بلا شك، أن رفض الحزب ترشيح سامي يظل مؤشراً إلى تعقيدات كتائبية في وجهه، ستكون مرشحة للتفاقم أكثر في حال خسارة الانتخابات.
ويظل طابع المعركة الفاصلة بالنسبة إلى أمين الجميّل على المستوى اللبناني. فالرئيس الأسبق للجمهورية بات يرجّح أن يتّجه الوضع العام إلى فراغ دستوري طويل الأمد نسبياً. وهو فراغ لا بد أن يُملأ عبر آلية معقّدة من الوساطات الدولية والإقليمية والتكيّفات الداخلية. وهي آلية يرى نفسه مؤهّلاً بلا شك لأداء دور أساسي فيها. وهو ما قاله صراحة بعد اغتيال نجله بيار. وهو أيضاً ما قيل إنه سمعه بوضوح من عمرو موسى، وترك الإيحاء به يفعل فعله بعد زيارته البيت الأبيض في 5 آذار الماضي. والجميّل المرشح يدرك تماماً أن كل ما سبق سيكون في كفّة الميزان يوم الأحد المقبل.
وتبقى المعركة الحاسمة الثالثة بالنسبة إلى ميشال عون. وهي حسم موقّع أيضاً على ثلاث حلقات. معركة حاسمة للنظام التوافقي اللبناني وما يسمى ميثاق العيش المشترك. فإذا سقطت صلاحيات رئاسة الجمهورية اليوم، لا يمكن لأي ظرف آخر استعادتها. وإذا جُيّر فوز متني ما، إلى رصيد المنظومة الحريرية، فسيكون على سبعين في المئة من المسيحيين الاعتياد بدءاً من الأحد المقبل على الهتاف والمبايعة بلغة «يا طويل العمر». وإذا تراجع ميشال عون في 5 آب، يكون الاغتيال السياسي لآخر الزعماء الموارنة قد نفّذ نهائياً، وذلك بعد فشل المحاولات السابقة، منذ عشيّة عودته في 7 أيار 2005، وحتى غداة جريمة الغدر ببيار الجميّل في 21 تشرين الثاني الماضي، يوم تعالت الأصوات المحرّضة داخل مستشفى مار يوسف، على عكس إرادة أمين الجميّل الأثكل لحظتها: «لنهجم الآن على الرابية».
ثلاث معارك حاسمة وخمسة أيام لجلاء غبارها. وأولاها بين اليوم والغد، أمّا بعد الأحد المقبل فيوم آخر، قد لا يكون لأحدهم غد فيه إلاّ إذا اجتُرحت معجزة.