strong>فاتن الحاج
  • الصور النمطية غالبة عند الضفة الأخرى من الأطلسي...

  • في السابع من آب 2006، طار 27 تلميذاً وتلميذة من لبنان إلى الولايات المتحدة ليعيشوا في كنف الأسر الأميركية. المشاركة أتت بموجب برنامج YES وقد خضع المختارون لعدد من الاختبارات. عاد التلامذة أخيراً محمّلين بأفكارٍ كوّنوها عن مجتمع اختبروه مدى سنة دراسية كاملة

    خشيت ليلى قبلان أن تخسر فرصة العمر. الحرب اندلعت في لبنان وحركة الملاحة توقفت في المطار والحلم اندثرتصالاً من السفارة الأميركية كان كافياً لكي تستعيد الأمل وتستكمل الاستعدادات للسفر إلى الولايات المتحدة، «فقد تبلّغنا بأنّ هيليكوبتر ستقلّنا في 7 آب إلى قبرص ومنها إلى لندن فأميركا». مشهد الوداع كان مؤثراً، كما تقول ليلى، «فقد اختلطت مشاعر الفرح لزيارة النقطة الثانية من الكرة الأرضية، بالحزن على أحبّة نتركهم في ظروف استثنائية، والأسى على وطن يحترق».
    حطّ التلامذة في واشنطن العاصمة حيث أمضوا معاً أسبوعاً واحداً تعرفوا خلاله بجغرافيا الولايات المتحدة وسلطاتها الإدارية ودستورها، قبل أن يُمضي كلّ منهم إلى «عائلته» ليحيا تجربته الخاصة.
    حين وضعت الحرب أوزارها كان التلامذة في واشنطن «فهيّصنا وحملنا الأعلام اللبنانية، وسرنا في تظاهرة في بلد التظاهرات»، على حد قول حسن الغول. ومع أنّ التلامذة توزعوا في ولايات عدة، فإنّ خيوطاً ربطت بين التجارب المختلفة، والمشاركون في برنامج YES تحدثوا عن أسئلة عكست صوراً نمطيةً عن بلدهم، فيما أتوا من بلاد العم سام بأفكارٍ «مغايرة» لما تبثه نشرات الأخبار والمسلسلات والأفلام الأميركية.
    الصور النمطيةإلاّ أنّ التلميذة المحجبة ملك السهلي تنفي أن تكون الأسئلة التي تعرضت لها في بداية العام الدراسي استفزازية «فالتلامذة كانوا يسألونني في البداية عن الحجاب من باب حب المعرفة، ثم باتوا يحبّون الملابس التي أرتديها، إلى درجة أنّهم أصبحوا يقدّمون إليّ ملاحظات حول التنسيق بين ألوان الثياب والحجاب».
    ويعزو حسن الغول السبب في طرح الأسئلة النمطية التي واجهته «هل تعيشون في الصحراء أو هل تذهبون إلى المدرسة بواسطة الجِمال؟» إلى أنّ التلامذة الأميركيين لا يتعلّمون الجغرافيا ولا يعرفون شيئاً عن العالم، باستثناء المعلومات البسيطة عن أوروبا. ويروي حسن أنّه شارك في مؤتمر «بولدر» للتعرّف بميزات القيادة «Leadership» حيث قدّم مداخلة رفض فيها النظرة النمطية والمشوهة إلى اللبناني والعربي بقوله «هذا ظلم ونمطي»، ما دفع أحد الصحافيين الأميركيين إلى «عنونة» مقاله حول المداخلة. وقد سعى حسن، كما قال، إلى الاحتفاظ، طوال إقامته في الولايات المتحدة، برأيه السياسي تجنباً لأي صدام.
    لعل ما اجتذب تلامذة برنامج YES المنهج الدراسي غير الثابت، وفرصة اكتشاف الثقافة الأميركية من كل جوانبها، عبر حرية اختيار المواد التي يرغبون في دراستها، وإن كان المنهج يفرض الخضوع لمواد اللغة الإنكليزية والحكومة الأميركية والتاريخ الأميركي حيث يجري التركيز في أحد الفصول على السياسة الخارجية للولايات المتحدة. وإضافة إلى الرياضيات والفيزياء والكيمياء، اختار التلامذة مقررات دراسية أخرى مثل «الأميركان فوتبول»، و«الغولف» ورفع الأثقال والرقص و«الدراما» و«الغيتار» وتأثير الموسيقى على المجتمع والنحت واللغة الإسبانية... وتنقل نور قصير إعجاب زملائها الأميركيين بالمستوى التعليمي للتلامذة اللبنانيين. ومع أنّ بعض الطلاب حققوا تفوقاً في دراستهم وحصلوا على دبلوم يعادل شهادة الثانوية العامة ويخوّلهم الالتحاق بالتعليم الجامعي في الولايات المتحدة، غير أنّ وزارة التربية اللبنانية لا تعترف بهذه الشهادة، إذ تفرض خضوع جميع الطلاب للامتحانات الرسمية.
    متعة التطوع
    لم تكن الدراسة الشغل الشاغل للتلامذة، فالبرنامج يفرض تنفيذ 40 ساعة تطوع على الأقل، على أنّ من ينجز 100 ساعة يحصل على شهادة موقعة من الرئيس جورج بوش. فمن التلامذة من تطوّع في نادي الدراما والمكتبة العامة والكنيسة حيث كانوا يعدّون وجبات للعائلات الفقيرة ويعلّبونها في صناديق كرتونية، وشاركوا في حملة تبرعات لأطفال العالم الثالث، وساعدوا بعض التلامذة في دروسهمنسج التلامذة علاقات داخل الأسر الأميركية التي احتضنتهم ومع الأصدقاء الذين لا يزالون يتواصلون معهم بواسطة شبكة الإنترنت. سأل المنسق في ولاية واشنطن الطالب آدم عبد الله ما إذا كان لديه مشكلة في العيش مع عائلة يهودية فأجابه: «أبداً هي تجربة خضتها وسأعيشها كما هي». وقد اصطدم آدم في البداية بـ«كم سؤال» مثل: متى تُصلّي؟ من أين أتيت بثيابك؟... وقد حاول أن يتجنب حشرية الأب «المتصهين»، على حد تعبيره، «كنت كلما أشعر أنّه بدأ يتحدث في السياسة أهرب من الموضوع، وتساعدني في ذلك الأم التي كانت تقف في صفي في غالبية الأحيان». يذكر أنّ الأسرة اليهودية تنتمي إلى جمعية كديما التي تعنى بشؤون اليهود. وكانت الأسرة جلبت لآدم هدية صغيرة لدى وصوله، وأحضرت له خبزاً عربياً، وأخذته إلى مطعم مكسيكي حيث تذوق للمرة الأولى الأكل المكسيكي. آدم لا يزال يتصل بالعائلة التي وعدته بأن تساعده إذا قرر متابعة دراسته الجامعية في الولايات المتحدة. و«عائلة» ليلى قبلان كانت تسكن في واشنطن العاصمة وتتألف من أم وأب وولديهما دانيال (4 سنوات) وكريستوفر (6 سنوات)، فوجدت ليلى نفسها «مجبرة» على مسايرة أخويْها الجديدين، وخصوصاً أنّها الأصغر في أسرتها الحقيقية وليست معتادة على التعاطي مع الأطفال، «لكنّ التجربة أكسبتني الكثير من المسؤولية». أما نور زين الدين ونور قصير فاضطرتا إلى تغيير العائلات أكثر من مرّة، لكن مراكبهم رست في نهاية المطاف عند أسرتين شعرتا أنّهما لا تختلفان عن عائلتيهما الحقيقيتين، فتعرّفت نور زين الدين بريبيكا (16 سنة) التي شاركتها الغرفة: «كنت أنام معها وشعرتُ أنّها أختي الحقيقية، إذ تجمعنا أمور كثيرة، نحب الموسيقى والأفلام نفسها، حتى إنّهم كانوا يقولون لنا «إننا نشبه بعضنا من حيث الشكل». وتحرص نور على القول «إن هذه العائلة محافظة وليست النموذج الذي نراه في التلفزيون حيث كل شيء مباح».
    من جهتها، تقول نور قصير: «أعطوني حريتي ضمن حدود وجعلوني أعتمد على نفسي، لذا أفتقدهم كثيراً».
    وبالنسبة إلى الأصدقاء، لا يخفي حسن الغول صعوبة تكوين صداقات، فكثيرون يعرضون على الزائر تعاطي المخدرات «ولكن الحلو في الأميركان إنو بيسألوك إذا بدك أو لا». ويجمع التلامذة «على اللحظات النادرة التي تعيشها العائلات في مواسم الأعياد، فيقيمون حفلات تنكرية حيث تتجلى الروابط بين أفراد الأسرة بأبهى حللها».
    أعجبت الحياة الأميركية الكثير من التلامذة، فأتوا بصورٍ وأفكار عن الشعب الأميركي الذي ميّزوه عن الحكومة الأميركية. حسن الغول يطمح إلى أن يصل لبنان بأميركا بعملٍ استثماري ضخم «لا أريد أن أكره كل أميركا بل أسعى إلى تحقيق مصلحة الشعبين». ونور قصير التي تنوي العودة إلى أميركا حيث الخيارات أوسع للتخصص، تعلمت أن لا تصدق كل ما يقال، فالكتب والأفلام تنقل صورة خاطئة عن الولايات المتحدة حيث يعيش شعب طيب وتسيطر حياة اجتماعية رائعة. وباتت ملك السهلي تشعر أنّها تفعل ما تريد بمسؤولية، فعلى سبيل المثال «أصبحت أصرف المال بدقة، وتدرّبتُ على قبول الاختلاف».
    أما ليلى قبلان فأيقنت أنّه يجب أن ينظر إلى الإنسان انطلاقاً من كونه إنساناً لا مما يؤمن، فـ«لا يجوز أن نجبر أي شخص على أن يفكّر مثلنا». ليلى التي تعلمت من رفاقها الأميركيين أهمية عدم تضييع الوقت تعمل خلال هذا الصيف في أحد المطاعم، في محاولة لتحقيق مزيد من الاستقلالية.


    بحثاً عن قادة المستقبل


    يستعدّ 47 تلميذاً وتلميذة للالتحاق ببرنامج التبادل والدراسة الخاص بالشباب YES للعام الدراسي 2007 ـــــ 2008. سيشكل هؤلاء الدفعة الرابعة التي ترسلها السفارة الأميركية في بيروت ومؤسسة «أميديست ــــــ لبنان» إلى الولايات المتحدة لقضاء سنة دراسية كاملة من المرحلة الثانوية في ضيافة أسر أميركية. يُذكر أنّ الدفعة الأولى ضمت 9 تلامذة والثانية 22 تلميذاً والثالثة 27 تلميذاً. وتشرح مسؤولة البرنامج في السفارة أديت بيطار أنه يشمل تلامذة المدارس في كل لبنان الذين تراوح أعمارهم بين 15 و17 عاماً. ويهدف البرنامج، بحسب بيطار، إلى تعزيز التقارب بين الثقافتين اللبنانية والأميركية ومنح القادة الشباب المهتمين بالدبلوماسية الدولية تجربة عملية في كيفية ممارسة الدبلوماسية في الواقع.
    ويخضع التلامذة لاختبار في اللغة الإنكليزية، على أنّ البرنامج لا يهتم بأن يكون التلميذ لامعاً في دروسه، بقدر التركيز على من يتمتع بصفات قيادية ويكون قادراً على التعبير عن نفسه، وهذا ما تكشفه المقابلات الشخصية مع التلامذة وأهاليهم. ويسعى البرنامج، كما تقول بيطار، إلى أن تكون الأولوية لتلامذة المناطق النائية.
    ويشارك التلامذة، الذين يُختارون لما يتحلّون به من سمات تؤهلهم لأن يكونوا قادة محتملين في المستقبل، في البرنامج، فيعيشون في كنف أسر أميركية تتطوع لاستضافتهم والعناية بهم، ويتابعون جنباً إلى جنب مع زملائهم الأميركيين الدروس النظامية المعتادة، والمختبرات، والبرامج العلمية والثقافية الرديفة، وينخرطون في نشاطات خاصة تنمّي شخصيتهم، ويتعلمون بالاطلاع المباشر والتطبيق قيمة خدمة المجتمع وأهميتها، والريادة الشبيبية، والمشاركة المدنية.
    أما نفقات السفر ومصروف الجيب والتأمين الصحي وسائر التكاليف فيوفّرها البرنامج الذي يبدأ باجتماع توجيهي لتعريف التلامذة بالدور الذي تؤديه وزارة الخارجية الأميركية في برنامج YES. يذكر أنّ البرنامج استحدث في بلدان الشرق الأوسط حيث يشكل المسلمون نسبة لا يستهان بها من السكان.