فداء عيتاني
مجموعتان على الأقلّ من المؤيّدين لفكر التنظيم متخفّيتان في جرود الضنيّة

يرتاح أحد أقطاب المعارضة الشماليّين في مقعده في منزله الطرابلسي. صار بإمكانه أن يتحدّث بهدوء بعد تراجع وضع تيّار «المستقبل» بين الناس في الشارع، على ما يقول، بينما يتجمّع عشرات من مناصري التيّار في أحد المباني القريبة التي كانت تحتلها الاستخبارات السورية في طرابلس، وتحوّلت اليوم إلى «ثكنة» لعناصر شركة أمنية بلباسهم الخمري.
في المدينة، ينتشر الجيش اللبناني وعناصر قوى الأمن بشكل كثيف وسط أنباء يردّدها مؤيّدو الجيش، قبل معارضي العمليات العسكرية، عن نسب تسرّب كبيرة، فيما يجول إسلاميّون يتعرّضون للتوقيف والمساءلة عند كل مفترق وطريق. وفي جرود الضنية يمكن مشاهدة القصف المدفعي الذي ينهمر على مخيم نهر البارد، حيث لا تزال تقاتل مجموعات «فتح الإسلام». وليلاً، يمكن مشاهدة القنابل المضيئة فوق المخيّم المحاصر، بينما تبقى مجموعتان على الأقلّ من المؤيّدين لفكر تنظيم القاعدة متخفّيتين في الجرود الجبليّة الصعبة والشاهقة للضنيّة، ويعلم عناصر المجموعتين جيّداً أن القوى الأمنية اللبنانية تطاردهم. إنّه الشمال اليوم، حيث العديد من الأصوات تعلو فوق أصوات المعارك.
لم يعد المشروع الأميركي، كما يسمّي المعارضون مشروع قوى 14 آذار، يحمل آليات نجاح، بل أصبح يؤول إلى الفشل. وعلى من كان قد أيّده حتى الماضي القريب أن يحسب طريق العودة بأقلّ الخسائر الممكنة، وإن أمكنه وسمحت له حنكته السياسية، فليحسب طريق الربح من الانسحاب من المشروع الأميركي في لبنان. هذا هو الخطاب المكثّف للمعارضين في الشمال اليوم، ويعبّر خلدون الشريف، الذي لا يزال يصرّ على العلاقة المباشرة مع الناس في إحدى أفقر مناطق طرابلس، عن هذا التوجّه في التفكير.
لم يعد لدى أحد من شكوك في أنّ من كان يقف خلف انتشار «فتح الإسلام» وتشجيعها، ومن فتح معها حوارات حول ضرورة «حماية أهل السنّة في لبنان» لن يدفع الثمن من خلال رأسه السياسيّ، بل من خلال مجموعة من الرموز الإسلاميّة المحليّة، على الأقلّ. وفي لقاءات خاصة مع «الأخبار»، يتحدّث الشيخ بلال بارودي عن معطيات مشابهة، رافضا أصلاً تصنيفه بالسلفيّ. وإن كان الشبّان السلفيّون يؤمّون مسجده، فهم يتجمّعون وينتشرون في العديد من المساجد الطرابلسية اليوم، وفي الشمال عامة، وحتّى آخر خط على الحدود اللبنانية الإسرائيلية.
يستشعر اليوم أعضاء «اللقاء الإسلامي المستقلّ» الخطر الجدي، ويتلمّسون أصابع الاتّهامات التي ستُوجّه إليهم. هذا اللقاء الذي كان متّهماً إلى وقت قريب بأنّه مدعوم وداعم لآل الحريري ولتيّار السمتقبل في الشمال، يُتّهم اليوم بأنّه وقف خلف تشجيع «فتح الإسلام» والفكر القاعدي في الشمال. وقد يواجه تهمة التخطيط لإعلان إمارة إسلامية في الشمال، وهي القصّة التي انتشرت إعلامياً عبر تسريبات أمنية.
تلتقي لائحة طويلة من رجال اللقاء الإسلامي المستقلّ وقادته على خلفية الدفاع عن النفس الآن. اللقاء بأغلبه يضمّ شخصيّات سلفية، تتبنّى الفكر الوهابي، وربما أهمّها على الإطلاق هو الشيخ داعي الإسلام الشهال، وإيهاب البنّا، والشيخ العالم محمد بكار زكريا، والشيخ رائد حليحل. وتُوجَّه اليوم إلى البعض من أعضاء اللقاء الاتّهامات بتشجيع الفكر الأصولي والمتشدّد و«الإرهاب» ــــــ بحسب التعابير القانونية ــــــ المتجسّد في حركة «فتح الإسلام» في الشمال. وكذلك قد يُتَّهم اللقاء الإسلامي المستقلّ بأنّه هو نفسه منظّمة إرهابية، وذلك عبر شرارة أطلقها قاضي التحقيق لدى المحكمة العسكرية مارون زخور يوم 26 حزيران الماضي ادّعى فيها على ب.م. بيتيه، وطالب بملاحقة عدد من أعضاء اللقاء الإسلامي المستقلّ، فيرد في مذكرة التحرّي والبحث أسماء كل من ع. الجاسم، أ. هودا، ط. رضوان، س. الميناوي، إ. البنا، وأ. عوض، واتّهام لبعض أركان اللقاء بالسعي إلى تسليح المقاتلين ومحاولة تشكيل ميليشيا خاصّة وإعلان تخزينهم لمتفجرات متطورة. وحصلت مداهمة منتصف الأسبوع الماضي لمقرّ تابع لأحد أركان اللقاء نفسه، بحثاً عن أحد المطلوبين من لبنان والمملكة العربية السعودية معاً بتهمة الانتماء الى تنظيم القاعدة. وسواء دفع السلفيّون ثمن العلاقة مع «فتح الإسلام»، أو تمكّنوا من التخلّص من عبء تحمّل مسؤولية التحريض على القتال «دفاعاً عن أهل السنّة بوجه الرافضة (الشيعة)»، فإنّهم، طبعاً، لا يمكنهم الإدلاء بما يملكونه من معلومات حول ارتباط أطراف لبنانية عدّة بالتحريض على الأصولية، في مسعى إلى تشكيل جيش للطائفة السنّية يعيد التوازن المفقود مع الشيعة، حيث تملك الطائفة الشيعية بحسب هذا المنطق جيشاً يدعى المقاومة، بينما تفتقر الطائفة السنّية إلى عمود فقري أمني وعسكري وحتى قيادي على المستوى اللبناني.
إلا أنّ انفجار الشمال حدا عتاة السنّة من الموجودين في السلطة إلى إطلاق شعار «حتّى آخر عنصر من فتح الإسلام»، ودفعهم أخيراً إلى محاولة تنظيم «أنصار الجيش» في إطار شبه ميليشياوي، دعماً للجيش اللبناني ضد مخيم نهر البارد ومن فيه، وبوجه من تسوّل له نفسه التحرك في مخيم البداوي، كما ضد أي من السلفيّين الذين قد يفكّرون يوماً في الإدلاء بمعلومات حسّاسة توضح ما جرى في الشمال خلال الفترة الممتدّة من نهاية حرب تموز عام 2006 إلى 20 أيار، تاريخ انفجار الصراع على هوية الشمال.يعلم السلفيون هذا الواقع، ويعرفون أيضاً أنّ الأمور تجري لغير مصلحتهم بالمطلق، وأنّ مدارس ومعاهد عدّة ستكون قيد الإغلاق، وأنّ المساجد ستكون عرضة لمراقبة معلنة، منعاً لانتشار الشبّان القاعديّين فيها، وحصراً لحملة تحريض سابقة أدّت إلى ما وصلت إليه مدينة طرابلس.
إلا أنّ حجم الأزمة تخطّى ما يمكن حصره بمجموعة تدابير أمنية. وفي الصالونات، يمكن بليدي التفكير من الطبقة السياسية اللبنانية مناقشة «القاعدة المزوّرة الموجودة في لبنان» و«دور الاستخبارات السورية في غزوة نهر البارد» أو «القتال العنيف الذي يخوضه مقاتلون مستورَدون من أنحاء العالم إلى المخيّم»، إلا أنّ النقاش الغبيّ لهؤلاء لا يوضح أنّ صورة ما سيكون هي انتشار القاعدة في لبنان، وحين نفّذت مجموعات داعمة لفتح الإسلام عملية ضرب اليونيفيل الإسبان ومن بعدها بعثت برسالة موقع مراقبة اليونيفيل التي اخترقت كل التدابير الأمنية، كان الدكتور أيمن الظواهري يبارك، في تبنٍّ غير مباشر لفتح الإسلام نفسها، وهو الذي يمنّي النفس بتبنّي فتح الإسلام بشكل واضح حين «تنتصر». إلا أنّ خريطة عمل تنظيم القاعدة تتبنّى الأعمال لا الجبهات المفتوحة، وما حصل من نزاع بين أبو مصعب الزرقاوي وبين قائده الشيخ أسامة بن لادن في الأعوام التالية على احتلال العراق، وتهديدات الزرقاوي بالاستقلال عن تنظيم القاعدة، هو دليل إضافي على تفضيل القاعدة تبنّي الأعمال لا المجموعات أو التشكيلات أو الجبهات المفتوحة، التي تورّطها ويسهل ضربها أكثر ممّا تفيد استراتيجية الجهاد لدى التنظيم العالمي.
وفي لبنان اليوم، تنتشر مجموعات القاعدة في مئات المساجد، سواء في الشمال أو في باقي المناطق اللبنانية. مساجد يؤمّها السلفيّون، وهي ليست بالضرورة بإمامة سلفيّين، وعلى الأغلب لا تزال هذه المساجد تابعة شكلاً لدار الإفتاء. وفي شقّة «المجموعة السعودية»، اكتشفت القوى الأمنية أنّها قاتلت ربع المجموعات المنتشرة، بينما كان هناك ثلاث شقق إضافية خلف الجيش تطلق نيران القنّاصة على ظهور عناصر القوى الأمنية خلال عملية الاشتباك. ونجحت هذه المجموعات بالفرار وهي تعرف بأسماء الجنسيات التي تحملها: الدنماركية، والفرنسية، والأوسترالية، وهي موجودة الآن في مكان ما من العالم بأمان، بينما لم يلغِ القضاء على مجموعة القلمون من دون إطلاق نار وعبر السمّ، الهاجس من وجود عناصر أخرى داعمة لفتح الإسلام وتنتمي إلى القاعدة في المناطق المحيطة والقريبة.
على رغم كلّ ذلك، ثمّة من يراهن على أنّ ضرب السلفيّين في الشمال سيغلق الملفّ نهائياً، ويضرّ بالمعارضة في ناحية من النواحي. ويعدّ البعض لافتعال إشكالات داخلية سنّية ـــــ سنّية في الشمال، أو سنّية ــــــ علوية، تلغي مكاسب حقّقتها المعارضة سياسياً بالنقاط وبهدوء، مدى أكثر من عامين من الصبر، وهو ما يؤكّد معارضون إمكان تلافيه حالياً بسبب ضعف الفريق الذي يخطّط لإشكالات واضطرابات محلية.