جان عزيز
لم يكن ينقص الحريرية السياسية الا قرارها، أو موافقتها على الأقل، على ضرب السلاح الفلسطيني، لتكمل قطيعتها الواضحة والظاهرية مع منظومة الخطاب الايديولوجي التقليدي للقوى السنية المركزية في لبنان. حتى الأسبوعين الماضيين، وحده السلاح الفلسطيني كان ناقصاً في سجل الانقلاب الحريري، المحقق باسم المنطق السني اللبناني المركزي، على تاريخ عمره نحو ثلاثة أرباع القرن.
ذلك أنه منذ قيام لبنان الكبير سنة 1920، تمنطق الرفض السني للكيان الجديد خلف مجموعة من المقولات الداخلية والاقليمية والمفهومية. ورغم انخراط السنّة، تدريجاً، في التجربة الدولتية الجديدة، ظلت منظومة الرفض السابق حاضرة في كثير من الأداء والفكر والقول، وخصوصا في «اللامقال». وعلى مدى ثمانية عقود تكيّف الكثير من تلك المقولات مع الوضع اللبناني المستجد. والأهم أن بعض سمات «لبنان المسيحي» السابق، تكيّف هو أيضاً مع بعض الخطاب السني. فكانت عملية التسوية الدائمة بين اللبنانيين. العروبة، مثلاً، صارت هوية للكيان. والشراكة الفعلية في النظام طبّقت حتى في ظل الجمهورية الأولى، وقبل تعديلات الطائف التي جاءت لتصدق أمراً كان واقعاً منذ أعوام.
غير أن «المشكّكين» ظلوا يقدمون الأدلة على ظرفية ذلك التحول. فقيل مثلا أن «لبنانية» السنّة في عهد الاستقلال الأول ظلت مشوبة بالكثير من «الحلم السوري»، بدليل أن مؤسسها لم يكن الا مناضلا سابقا في الكتلة الوطنية السورية، في مواجهة الانتداب الفرنسي. وقيل أيضا أنه بعد غياب هالة رياض الصلح، لجأت «لبنانية» السنة تلك الى ظلال عبد الناصر، تعويضا عن الرفض المكتوم للكيان اللبناني، وتطلعا الى تغيير واقعه، وصولا حتى الثورة عام 58. وقيل ايضا أن رحيل عبد الناصر لم يلبث أن استعيض عنه بحضور أبو عمار، مظلة وواجهة للبنانية السنة في السبعينات. والكوامن نفسها والمكبوتات، ظلت قائمة، فانفجر الوضع سنة 75، ليعلن مفتي الجمهورية الراحل حسن خالد، ان الفلسطينيين، هم «جيش السنة» في لبنان.
هكذا، ورغم التحولات الواضحة في الفكر السني، ظل البعض من شركائهم في الوطن، يطرحون التساؤلات والشكوك، حول حقيقة الخطاب السياسي لهذه الجماعة اللبنانية الأساسية. الى أن جاء رفيق الحريري. كما الزعيم السني الذي رافق الاستقلال الأول، انتقل الحريري من صيدا الى بيروت، ليكرس زعامته في الداخل. وكما رياض الصلح أيضا، حمل الحريري في خلفيته- والجنسية - حضور العاصمة السنية العربية الجديدة، الرياض، والتي كانت التطورات الاقتصادية والسياسية والدولية، قد أحلتها محل دمشق الأربعينات. مع الحريري، بدا واضحا أن السنة في لبنان لم يعودوا في حاجة الى غطاء ما للبنانيتهم. للمرة الأولى في تاريخهم ضمن الكيان، خرجت هذه الجماعة من اللبنانية السورية في الأربعينات، ومن اللبنانية الناصرية في الخمسينات والستينات، ومن اللبنانية العرفاتية في السبعينات وبعض الثمانينات، لتعلن لبنانيتها الخالصة البحتة، بضمانة رفيق الحريري.
هذا الواقع تجذر أكثر بعد اغتيال رجل التحول التاريخي. وصار أكثر هجومية بعد جلاء الجيش السوري. ليصير أكثر استماتة وقتالية بعد تمكن الحريرية من السيطرة على السلطة في لبنان. صار السنة، موارنة الاستقلال الأول، يعادون سوريا الشقيقة، كما استعدى الأخيرون فرنسا الأم الحنون، دفاعا عن «دولتهم». ويرفضون السلاح الغريب، ويتمترسون خلف الجيش، تماما كما فعل الموارنة والمسيحيون، أواخر الستينات ومطلع السبعينات، ذوداً عن «سلطتهم» وجيشها الامبراطوري، بالمعنى التاريخي للكلمة.
قطعت الحريرية مع خطاب جماعتها السابق، تماما كما قطعت «الكتلة الدستورية» مع الخطاب المسيحي الانتدابي، في الأربعينات. صارت القوة السنية المركزية، هي رمز المواجهة مع دمشق، ومنطلق الانفتاح على الغرب، ورأس حربة الهجوم على السلاح الغريب، وصارت هي من يضمن مشاركة الجماعات الأخرى في السلطة. والأهم أنها صارت المحرك الأول للبنى الاقتصادية والاجتماعية في البلاد، داخلياً وخارجياً، مع تقدم ديموغرافي ضمنه مرسوم التجنيس ذات الأكثرية السنية، وتحفز اقتصادي تواكبه مقدرات هائلة من لبنان وخارجه، ومع أرجحية في موازين عمل النظام الدستوري، أمنها اتفاق الطائف، الموقع بلا مصادفة على أرض السعودية...
لم يكن ينقص غير قرار القوة السنية اللبنانية للجيش بضرب السلاح الفلسطيني. تماماً كما حاولت القوة المارونية أكثر من مرة، من دون أن تنجح. هكذا اكتمل التحول، ولم يعد أمامه غير التطلع الى سلام المنطقة، السلام نفسه الذي تحدث عنه الحريري الراحل أكثر من مرة، بعيد وصوله الى الحكم سنة 92.
ماذا يريد المسيحيون أكثر من ذلك؟ سؤال طرحه مسيحيو الحريري علناً، ويطرحه بعض «المسيحيين المواطنين» دوماً وهمساً. ماذا يريد هؤلاء، وقد بات لديهم رئيس حكومة، أو نائب له، يناهض سوريا ويحالف الغرب ويضرب الفلسطينيين ويعطيهم نصف المقاعد الوزارية والنيابية، وحتى نصف مقاعد المجلس البلدي لمدينة رفيق الحريري، بيروت، ويكاد يرعاهم في ذمته؟
ماذا يريد المسيحيون أكثر من ذلك، خصوصاً بعدما لوّح لهم، بين «غزوة الأشرفية» في 5 شباط 2006 وموقعة «فتح الاسلام» في 20 أيار الفائت، أن البديل عن الحريرية في لبنان، لن يكون أقل من «بنلادنية» أو «زرقاوية» أو أسوأ، وأن سبل الانتقال والتبادل بين الاثنين سهلة سريعة وشبه تلقائية؟
حتى اللحظة يبدو أن اثنين من المسيحيين لا يزالان يتجرآن على التصدي للسؤال. ميشال عون الذي لا يزال يحلم بشراكة بدل الشركة، والبطريرك الماروني الذي سأل مرة ركناً من مسيحيي السلطة على طاولة غداء بكركي: ما يكون موقف حلفائكم، اذا ما تبدلت هوية النظام في سوريا؟ علما أن الاثنين لمّا يلتقيا على مقتضيات هواجسهما المشروعة بعد...