أنسي الحاج
بلد تحت التهديد

ليل الأربعاء 30 أيار 2007 غصّت قاعة الأونيسكو بجمهور جاء إلى حفلة زياد الرحباني الموسيقية، قبل ساعتين من إقرار مجلس الأمن للمحكمة الدوليّة.
كان الجوّ محتقناً. التهديد يحوّم فوق لبنان كلّه. أين ستنفجر؟ كيف ستنفجر؟ أي مخيّم بعد البارد؟ أي منطقة بعد عاليه؟ أي شهيد بعد بيار الجميّل ومَن سبقه؟
محاكمة قَتَلة ثمنها تهديم ما تبقّى من لبنان وترويع مَن تبقّى من اللبنانيين والفلسطينيين؟ لماذا؟
لأن الحكم السوري، قيل، يرفض المحكمة الدوليّة.
وهذا ما أكّده الحكم السوري على لسان أعلى مسؤوليه: ستشتعل الدنيا إذا...
أربعة ملايين مقيم على أرض لبنان يعيشون هذه اللحظة (ليل الخميس 31 أيّار) على فوهة بركان. جمهور زياد الرحباني ليلة الافتتاح كان فرحاً بالحفلة وبلقاء بعضه البعض، والجميع يداخلهم شعور أشبه بشعور أهل «تيتانيك» عندما لاح شبح الغَرَق. «فلنغرق فرحين متضامنين!»، كانوا كأنهم يتقاولون. في الخارج بيروت فارغة. من أوّلها إلى آخرها، لولا الحواجز العسكريّة، تجتازها في دقائق. حالة متواصلة منذ أيام. والغضب السوري يرشّحها للتفاقم. وإذا كانت هذه حال بيروت فحال طرابلس أسوأ. صيف آخر ينهار. إن لم يكن بسيف العدوّ فبلسان الشقيق قبل سلاحه. بلد بأُمّه وأبيه تحت عدم الرحمة. وبمسؤوليّة مشتركة بين زعمائه وأخصامهم الخارجيين وحلفائهم، واستهتار تام بعقول الناس وأرواحهم.
هذه الكلمة ليست من وحي مكيدة النهر البارد أو جلجلة المحكمة الدوليّة فحسب بل من وحي الماضي والحاضر والمستقبل.

لا ننتظر شيئاً من السياسيّين اللبنانيين. مَن لم يُسَرْبله الارتهان أعماه العته السياسي. ولو لم يكونوا موضوعاً قابلاً للاستعمال لما صاروا أدوات. إننا نخاطب الحكم السوري ونسأله: هل كُتب على أصدقاء سوريا في لبنان أن لا يستطيعوا مصادقتها إلاّ إذا شهدوا ضد لبنان؟
اكتوينا واكتوى العالم كلّه من لا أخلاقيّة السياسة الأميركيّة، ولكنْ ما لنا وللأميركيين؟ مفروض في الشقيق أن يكون هو الحريص. علامَ الوعيد بمضاعفات المحكمة؟ هل يُنْتَقَم من شعب لسبب كهذا، مهما تكن دوافع المهدّدين؟ لقد دخلت سوريا إلى لبنان لمنع «الحرب الأهلية»، وبذلتْ ما بذلت، فهل بإعادة «الحرب الأهلية» تعود سوريا؟ وتظلّ سوريا سوريا؟ حتماً لا. إن الشياطين التي كانت تُفَلَّت تحت السيطرة لم يعد مضموناً أن تُفلّت وتظلّ تحت السيطرة. وليس لبنان وحده الذي لم يعد يحتمل تمزيقاً. سوريا نفسها لا تحتمل ارتدادات الزوابع التعصبيّة.
كانت سوريا قبل حافظ الأسد تشكو من تآمر سوريّيها المعارضين على أنظمة حكمها انطلاقاً من بيروت. وكان بعض ذلك صحيحاً. لكنَّ الصحيح أيضاً أن مقموعي البلدان العربيّة ما كانوا يجدون ملاذاً لهم سوى بيروت. هي الحريّة كانت «تتآمر» وليس لبنان. لو أُعطي لبنان نزعة التآمر لما وقع بهذه السهولة فريسة المؤامرات. لكنَّ طبيعة لبنان هي الجَهْر والتمرّد لا التدليس والغَدْر.
ولا مرّة منذ حافظ الأسد بالتحديد رمى لبنان حجراً على سوريا.
أصدقاء سوريا في لبنان يريدون أن يكونوا أصدقاء لها دون وَخْز ضمير. ودون أن يضطرّهم الخوف إلى التظاهر بصداقتها. ولا صراع المصالح بين الفئات اللبنانية. ودون أن يكون جوهر العلاقات الثنائية مخابرات وأجهزة أمن.
لقد جمعتنا في الماضي أواصر النهضة الأدبيّة والفكريّة، ولا نريد أن تنحدر العلاقة إلى قياصرة وأزلام وإلى عيون وآذان.
إنّ لنا من إعجابنا بفضائل في الشعب السوري، في طليعتها الجديّة والصبر، ما يُغنينا عن تقديم براهين حسْن النيّة. كما أن لنا من إعجابنا بالنخبة من مفكّري سوريا وأدبائها وفنّانيها وما يتميّزون به من أصالة وصدق ورهافة ما يريحنا من أي شعور بالذنب ونحن نكتب هذه السطور عن حالة لا ريب، لا ريب إطلاقاً في أنها تُضنيهم قَدْر ما تُضنينا إن لم يكن أكثر.
بإمكان الحكم السوري، الذي يواجه شكوكاً واتهامات أن يؤسّس علاقة جديدة بلبنان مغسولة وصلبة، ما إن يتخلّى عن صورة لبنان المقاطعة المُلْحَقَة. لقد استطاع البطش، حين أَعيت الحيلة، أن يُطوّع الكثيرين، ثم تَمرّد كثيرون من هؤلاء المطوَّعين ولم يبق من البطش غير أحلامه. إن ما يتوجّب هو التطلّع إلى علاقة شفّافة يَبنيها ويرعاها رجال في الضوء لا أشباح في الظلمة. وسوريا الممسكة بخيوط «اللعبة» مؤهّلة أكثر من لبنان للمبادرة إلى فتح هذه الصفحة.
لا القتل يُغيّر شيئاً ــــــ ماضي العالم كلّه شاهد ــــــ ولا الثأر من القتل. وصَلْبُ لبنان بين معسكَرَين حان وقفُه.
لا نأمل ذلك من السياسة الأميركيّة. ولا من «الزعماء» والسياسيّين اللبنانيين. ولا من فرنسا ولا من إيران. إنّنا نأمله من سوريا.
وسوريا قادرة.

كتاب مقدّس

ضمّت جمانة حداد بين دفّتي كتاب، الشعراء المنتحرين في القرن العشرين، تحت عنوان جميل هو في الأصل اسم قصيدة للإيطالي سيزار بافيزي: «سيجيء الموت وستكون له عيناكِ». مقبرة ضخمة جريحة، مخيفة وهشّة، وضعتْ لها الشاعرة ــــــ الباحثة ــــــ المترجمة شاهدة من الألماني ريلكه: «يا ربّ، اعطِ كلَّ إنسان موته».
تتساءل جمانة: هل يكون يهوّذا أول منتحر في تاريخ العالم الحديث؟ وهل تكون سافو أول شاعرة انتحرت؟ وتخلص إلى الاستنتاج: كل الشعراء المنتحرين خَوَنة، وليس يهوذا وحده. من خائن روحه إلى خائن حبّه أو الشعر أو الجسد أو المنطق. «جميعهم بلا استثناء خانوا الحياة». أو أنهم، وبالمقدار نفسه أو أكثر، هي الحياة خانتهم، فأخذوا «الموت الطوعي الذي يجيء إليّ لأنّي أطلبه» على قول نيتشه الذي تستشهد به أيضاً صاحبة الأنطولوجيا.
يُعْجَب القارئ للجهود المبذولة في هذا السفْر، فكرةً واختياراً وترجمةً وتقديماً وتحليلات. لا التساؤل ينتهي ولا التأويل. موضوع أخطر من الموت.
كتاب صدّاح بالعَتَب، فـــــــــــوّاح بالمؤاخذة: ماذا تفعلون في الحياة؟ تركـــــــــــتمونا نذهب وحدنا؟ أإلى هذا الحدّ تكذبون على أنفسكــــــــــم؟ أيّ شعراء أنتم؟ شعراء؟ تركتُم الأبرياء وحدهم يعبرون النهر. خذوها، هذه الحياة! خذوها، أمجـــــــــادكم! إنّ ما تنعمون به ليس سوى فضلات كبريائنا...
أتخيّل هذه الكلمات وأنا أتصفّح قصائد المنتحرين والمنتحرات. لا بدّ أن يكون فيهم احتقار لأمثالنا. احتقار أو إشفاق ورفق. أرواحهم أعلى من جميع الأرواح، يُخيفون كما يُخيف وَلَدٌ لا يعرف الكذب. نهرب من مواجهتهم كما نهرب ممّن خذلناهم.
يُضفي عليهم انتحارُهم هالة صدْق ما كان شعرهم وحده سيوحيها لولا انتحارهم. يَغْسل الانتحار أو الموت في الصبا ما لا يغسله الموت العادي. وما لا يغسله الاضطهاد. كثير من الحَسَد يرافق نظرة الأحياء إلى أطياف المنتحرين.
... وجهٌ آخر، معاكس: ذَهَبَ الأبرياء كي يوقظوا انتباه الباقين إلى أهميّة البقاء. جَرَس توعية. لعلّه تفسير مُصطنَع، لإراحة الضمير، لكنّه غير مستحيل على فئة، بالأقلّ، من الشعراء هي فئة الملائكة، طيور الغاب وبَجَع البحيرات. عندئذ يمكن اعتبار هؤلاء عشّاقاً للحياة لا خانوها ولا خانتهم، بل تَعشّقوها حتّى جعلوا موتهم حاجزاً دونها، يُمنع على الباقين القفز فوقه. منتحرون حتّى لا ينتحر الآخرون.
إلى ما لا نهاية للاجتهاد.
... بل نهاية مُمكنة: حيث الشعر ــــــ شعر هؤلاء الشهداء أو شعر أيّ كان ــــــ يصبح دعوة إلى الحياة فوق أيّة دعوة. كهذه المنتخَبة من قصيدة للروماني بول سيلان: «تَقدّمي أمام بيتكِ/ اسرجي حلمكِ الثرثار/ دعي حافره يتكلّم/ مع الثلج الذي سرقتِه/ من سقف روحي». أو هذه من قصيدة للأرجنتينيّة إليخاندرا بيثارنيك: «أيّها الربّ/ ارمِ نعوش دمي (...)/ أيّها الربّ/ القفص صار عصفوراً/ والتهمَ آمالي/ أيّها الربّ/ القفص صار عصفوراً/ ماذا أفعل بالخوف؟». أو هذه للروماني غيراسيم لوكا: «مَن يتنفّس قرب المرآة/ هل هي نهاية العالم؟/ مهما يكن إنّه لذّة/ ثمّة شيء يَحْدث/ غلطةٌ/ تنزلق بين شفتيَّ/ هو جسدها الخفيف». أو، أخيراً، هذه للإيطالي سيزار بافيزي: «حيث أنتِ، أيّها النور، يرى الصباحُ النور./ الحياة كنتِ والأشياء./ وكنّا فيكِ نتنفّس يقظين/ تحت هذه السماء التي ما زالت فينا (...) أيّها النور، يا صفاءً بعيداً،/ يا نَفَساً يلهث،/ وجّهي أنظاركِ الثابتة والصافية إلينا./ مظلمٌ هو كلّ صباحٍ يَمضي/ من دون نور عينيكِ».
يبدو المنتحرون كمَن غلب اللعنة بألعن منها. ونبدو حيالهم، نحن المجرجرين أذيال الأيام، كمتعاونين مع العدوّ. ألهذا ينتحر المنتحر؟ ليعكّر علينا صفو صفحة مائنا؟
من فرط حياته، تكاد اليد تتهيّب إغلاق الكتاب، خشية انزعاج أرواحه. فمن قرّر موته بهذه الحريّة يحتاج بعده إلى حريّة أكثر.
لكن لا أحد يعيش لذاته ولا أحد يموت لذاته، على قول بولس. عُلّيقة في البريّة لا تستطيع أن تحمي نفسها من نقدات عصفور. وحين تتساقط فالتراب يأخذها ويُعيدها. لا جديد تحت الشمس وكلّ شيء جديد تحت الشمس. وأشدّ الانتحار عبثيّة، لا يخلو من كونه في مكانٍ ما هديّة.
هذا الكتاب الملعون هو أيضاً كتاب مقدَّس.