نقولا ناصيف
تبادل طرفا النزاع، قوى 14 آذار والمعارضة، رسائل إعلامية متناقضة حيال معاودة الحوار بينهما. ولم تكن هذه سوى إعلان نيات غامض، دونما تقليل حاجة كل من الطرفين إلى استعادة الحوار مع الآخر، من أجل إدارة مشتركة لانتخابات رئاسة الجمهورية. إلا أن كلاً منهما يتسلّح بشروط مسبقة: لا المعارضة تدخل في حوار للاتفاق على برنامج سياسي للمرحلة المقبلة مع قوى 14 آذار قبل استقالة حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، ولا قوى 14 آذار تجلس إلى طاولة حوار مع الفريق الآخر لا يكون على رأس جدول أعمالها التوصّل إلى حل تدريجي وجدّي لسلاح حزب الله بغية إخراجه من المعادلة الداخلية. وهكذا يتجاذب الطرفان المواقف تحت لافتة انتخابات الرئاسة، لكنهما لا يقربانها كاستحقاق في ذاته، إنما كجزء من التسوية تكون أحد بنودها، والتفاهم على الرئيس المقبل للجمهورية ثمرة الاتفاق السياسي.
بيد أن الخوض في حوار جديد بين طرفي النزاع لا يبدو مستعجلاً وملحاً، بمقدار ما تريد أن توحي ذلك المواقف المعلنة والنيات. بل يبدو الطرفان أكثر اهتماماً بتتبع ما كان يجري أمس في مخيم نهر البارد بين الجيش و«فتح الإسلام» نظراً إلى النتائج العسكرية والسياسية في آن واحد لوقائع الساعات الأخيرة. وقد فتحت هذه الأبواب الموصدة أمام الحسم العسكري، وتأكد أن الجيش قرّر الحسم العسكري بالتقسيط، عبر اعتماد أسلوب القضم في مواجهة مربعات مسلحي الميليشيا الإرهابية، تفادياً لأي اعتقاد بأنه في صدد دخول مخيم فلسطيني، مكتظ أو خال من سكانه، للمبررات المحلية والإقليمية التي تحول دون ذلك. هكذا سارت العمليات العسكرية طوال يوم أمس وفق وتيرة واضحة: تكثيف القصف والهجمات وسط غموض تعمّده الجيش في نتائج المعركة كي يرصد القدرات العسكرية التي لا تزال تملكها «فتح الإسلام» بعد زنار نار لفّ به الجيش مراكزها. والتأكد من وجود أفرقاء سلفيين آخرين يؤازرونها. ووضع الجيش قصف أمس في سياق مرحلة أولى تمهّد لسلسلة ضربات لا تفضي إلى السيطرة على المخيم، بل تفكيك مواقع الميليشيا وقتل عناصرها لحمل الآخرين على الاستسلام، وتالياً إنهاء عملياته على أنها حملة عسكرية فحسب، لا بعد سياسياً لها، ولا تسجّل خصوصاً سابقة اقتحام مخيم فلسطيني.
لكن النتائج السياسية للعملية العسكرية تؤدي إلى نزع أحد أحدث الفتائل، غير المحسوبة، في النزاع القائم بين الغالبية والمعارضة بسبب موقف كل منهما من الطريقة التي يقتضي أن يُصفى بها التنظيم السلفي. ففيما أيدت قوى 14 آذار حسماً عسكرياً، رفضه حزب الله ووضع دونه عقبات تمثلت بربط الحسم العسكري بالمحظور السياسي المحيط بالمخيم الفلسطيني. وهو ما كان مثار انتقاد سجّله قائد الجيش العماد ميشال سليمان أمام وفد حزب الله الذي زاره السبت الفائت، حيال بعض ما ورد في كلمة الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله في اليوم السابق (25 أيار) عندما تحدّث عن الخطوط الحمر. كانت ملاحظة سليمان أن الخط الأحمر هو المدنيون، لا المخيم نفسه عندما يؤوي إرهابيين يعتدون على الجيش.
ومع أن انتصار الجيش في المواجهة ـــــ وهو لا يمكن إلا أن ينتصر حماية لهيبته ـــــ يستطيع كل من قوى 14 آذار والمعارضة أن يوظفه لمصلحته وحساباته السياسية، فإن الرابح الفعلي من أحداث مخيم نهر البارد هو المؤسسة العسكرية لأسباب ثلاثة على الأقل:
أولها، نجاح الجيش في إخراج العامل الفلسطيني تماماً من المواجهة العسكرية مع «فتح الإسلام» لكون تصفيتها لا تتطلّب بالضرورة احتلال المخيم. وهو الموقف الذي تفهّمه الفلسطينيون بأن اضطلعوا ضمناً بدور إيجابي في اشتباكات أمس، حال دون خروج مسلحي «فتح الإسلام» من مقارهم والتغلغل في أحياء أخرى من المخيم لاستدراج الجيش إلى الداخل.
وثانيها، تثبيت سابقة تمثل الطريقة التي سيعامَل بها أي تيار سلفي أو متشدّد يريد أن يحذو حذو «فتح الإسلام»، أكان تنظيماً سياسياً أو عقائدياً أو ميليشيا إرهابية. واستناداً إلى مسؤول أمني بارز، فإن اطمئنان الجيش إلى الجبهة الخلفية ـــــ والمقصود بذلك المخيمات الفلسطينية الأخرى في المناطق اللبنانية ـــــ مكّنه من مهاجمة «فتح الإسلام» لاجتثاثها من مخيم نهر البارد. أما مصدر طمأنته هذه، فهو أن مخيمات برج البراجنة وصبرا وشاتيلا (في بيروت وضواحيها) وويفل (في بعلبك) والرشيدية (في صور) تقع في دائرة نفوذ شيعي لن يمكّنها من إحداث قلاقل لإشغال الجيش عن هجومه. أما مخيم عين الحلوة في صيدا فتسيطر عليه حركة «فتح».
وثالثها تأكيد الجيش موقفه، وهو أنه خارج الصراع السياسي الناشب بين قوى 14 آذار والمعارضة: لم يدخل المخيم لأن الغالبية تريده أن يفعل وهي لم تقدّم له في مجلس الوزراء الغطاء السياسي العلني والمطلوب، متعلقة بآمال سياسية تجاوزها الجيش. وقد انكفأ أقطاب الغالبية عن الجهر بالحسم العسكري بعد ساعات على إطلاقه، إلى المناداة بتسوية سلمية. ولم يستجب الجيش أيضاً لمطالبة حزب الله له بالتخلي عن الحسم العسكري، وإن هو جعل مخيم نهر البارد خطاً أحمر.
في حصيلة تقويم الجيش ما حصل أنه فضّل الخيار العسكري. تبعاً لذلك فإن دور الجيش في انتخابات رئاسة الجمهورية سيكرّر اتخاذ الموقف نفسه، وهو ألا يكون طرفاً فيها إلا بمقدار ما تتفق قوى 14 آذار والمعارضة على إدارة مشتركة لاستحقاق 2007.
بذلك، وأكثر من أي وقت مضى، كرّست المؤسسة العسكرية موقعها سلطة ثالثة بين طرفين محليين متناحرين، من غير أن تجد نفسها ملزمة الامتثال لأحدهما بما يعزّز دوره السياسي. والواقع أن الطرفين أساءا معاملتها على التوالي: خلاف الجيش مع حزب الله إثر اكتشاف شاحنة أسلحة قبل أشهر على طريق الحازمية سبّبت مصادرتها سجالاً لم يخلُ من انتقاد متبادل استعاد بعض وقائع حرب تموز عندما صادر الجيش أيضاً شاحنة أسلحة للحزب، وخلاف قوى 14 آذار معه يوم أحداث 23 كانون الثاني 2007 عندما اتهمه تباعاً أركان في هذا الفريق بالتواطؤ والتخاذل في قمع تظاهرات المعارضة، مكتفياً بالفصل بين الطرفين.
أما الحوار المعلق بين قوى 14 آذار والمعارضة، فلا يعدو كونه شدّ حبال بين طرفين ينظر كل منهما إلى الاستحقاق الرئاسي على نحو مختلف: قوى 14 آذار ترى نفسها المفاوض الأقوى لتسمية المرشح، والمعارضة تملك حق النقض ما دامت تمسك بزمام اكتمال ثلثي مجلس النواب لانتخاب الرئيس الجديد، الأمر الذي يؤول إلى خلاصة مبسطة هي أحد خيارين: مرشح توافقي أو انهيار المؤسسات.