عرفات حجازي
ثلاث أزمات متداخلة تشغل الوسط السياسي وتطرح تساؤلات مقلقة عن إمكان حدوث اختراق جدّي.
فلا المحكمة التي ولدت بعملية قيصرية، وفي ظل انقسام دولي، أمكن إقرارها في الداخل اللبناني بإجماع وطني كما كان يرغب كثيرون، ولا حركة الاتصالات والمبادرات المتصلة بأزمة نهر البارد وجدت حلاً، فبقيت تدور في حلقة دموية مفرغة، ولا حكومة الإنقاذ السداسية التي طرحها البطريرك نصر الله صفير سلمت من سهام الأكثرية التي وصفتها بالطرح المشبوه، ما وضع البلاد أمام انسداد من النوع المدّمر.
ومع إقرار المحكمة، فإن القوى السياسية، موالاة ومعارضة، أمام خيارين: إما قبول الواقع الجديد وأخذه مدخلاً لفتح الطرق السياسية المقفلة وإعادة التواصل بين الجانبين بحثاً عن الحلول والمخارج للملفات الخلافية، وإما التعامل مع هذا التطور بوصفه شحنة تصعيد للأزمة وتعقيداتها.
كان متوقعاً بعد صدور قرار مجلس الأمن أن تسارع القوى السياسية إلى إعادة صوغ مواقفها وفق المعطيات المستجدة، وأن تبادر إلى التخلي عن رهاناتها وتفتح طريق الحوار استعداداً لملاقاة المرحلة المقبلة والاستحقاقات التي ينبغي التعامل معها في مناخ توافقي. لكن الأكثرية بادرت إلى طرح رؤيتها للحل من دون أفق سياسي، متضمناً دعوة عمومية للحوار، نسفها الشرط المسبق بالانتخابات الرئاسية أولاً تليها حكومة وحدة وطنية، ما يعني أن البيان الذي أصدرته الأكثرية جاء تحت سقف التوقعات التي كانت تنتظرها المعارضة، وإن كان النائب سعد الحريري قد حاول تصحيح الموقف بالدعوة إلى حوار غير مشروط مع المعارضة لمناقشة كل القضايا، بما فيها طرح حكومة الوحدة.
وإذا كانت المعارضة لم ترد بعد على بيان فريق الأكثرية، إلا أن قطباً معارضاً لم ير فيه مبادرة، وإن الدعوة للحوار حول الثوابت هي مجرد كسب للوقت وصولاً إلى موعد الاستحقاق الرئاسي، فيما رأى الرئيس نبيه بري أن كل ممارسات فريق السلطة يعطي الدليل القاطع على أنهم يريدون التحكم وليس المحكمة. اذ كانت حجتهم في رفض حكومة الوحدة الوطنية في أنهم يخشون من تعطيل المحكمة، واليوم يقولون إن المحكمة صارت وراءنا، فلماذا لا يتجاوبون مع قيام حكومة الوحدة الوطنية؟ والواضح من سلوكهم ومواقفهم أنهم أعادوا ربط قيام هذه الحكومة بملف الرئاسة الأولى، والتفاهم على هذا الاستحقاق أولا،ً لأن حكومة الإنقاذ أو الوحدة الوطنية في رأيهم سيكون هدفها تعطيل الانتخابات الرئاسية.
ويخلص بري في قراءته للموقف السياسي لجماعة 14 آذار إلى أنهم لا يريدون الوفاق، متسائلاً عن سبب مسارعتهم إلى إجهاض المبادرة التي طرحها صفير حتى قبل لقائه مع الرئيس اميل لحود في حديث إلى صحيفة «لاكروا» الفرنسية، رأى فيه أن الحل السليم يكون في حكومة وحدة وطنية تساعدنا على تجاوز هذه المرحلة الصعبة وتجنب البلاد فراغاً دستورياً. وإذ استغرب بري هجوم الموالاة على طرح حكومة الوحدة الوطنية ووصفهم لهذا الطرح بالمشبوه والمعطل لانتخابات الرئاسة، تساءل كيف يوفّق هؤلاء بين تأكيدهم المستمر لضرورة أخذ مواقف البطريرك في الحساب واعتبار ما يصدر عنه مكوناً أساسياً في خياراتهم السياسية وبين إطلاق النار على مواقفه الواضحة، سواء لجهة الإصرار على تشكيل حكومة وحدة وطنية أو لجهة الرئيس التوافقي وضرورة توافر نصاب الثلثين في انتخاب رئيس الجمهورية واعتماد القضاء في قانون الانتخابات، لافتاً إلى أن هذه المشتركات والتقاطعات مع صفير كافية لإرساء أرضية سياسية مشتركة ولإنتاج تفاهمات في المرحلة المقبلة كفيلة بالخروج من المأزق الشامل الذي يهدد بالوصول إلى وضع أمني وسياسي خارج عن السيطرة، ولا سيما أن أزمة نهر البارد تتجه إلى مزيد من التفاقم بعد إخفاق المساعي والوساطات، ووصولها إلى طريق مسدود واتجاه الجيش إلى الحسم العسكري الممرحل واعتماد أسلوب القضم في مواجهة الإرهابيين تفادياً لدخول المخيم وضمان أمن المدنيين، ومقابل الصورة المتشائمة التي يرسمها المشهد الدموي في نهر البارد وحالة القطيعة شبه الكاملة بين الفرقاء اللبنانيين وشبه الانسداد للمساعي والطروحات لتعطيل فتيل الصواعق، ثمة مناخ إقليمي ودولي منفتح على حوارات إيجابية قد ينعكس تبريداً لسخونة الأوضاع، فالحوار الأميركي ــ الإيراني بدأ في أجواء وصفها الجانبان بأنها واعدة بعد ثلاثة عقود من الجفاء والانقطاع، وهناك حديث عن حوار فرنسي ــ إيراني لتهدئة الأمور في لبنان وطرح صيغ للمعالجة انفتحت على النقاش بشأنها الدولة الفرنسية.
على أن الأهم في حركة الاتصالات، الزيارة المفاجئة التي قام بها أخيراً وزير خارجية إيران منوشهر متكي إلى سوريا التي تحمل في قيامها إقرار المحكمة، ما استدعى هذا التحرك السريع لمنع أي تطورات سلبية في لبنان، خصوصاً أن أزمة نهر البارد باتت تنذر بمخاطر إذا بقيت تراوح مكانها، ويخشى الإيرانيون والسوريون أن تدخل لبنان في دوامة دموية تستحضر الكوابيس العراقية.
ومثل هذه الرياح النوعية من شأنه أن يساعد على تهدئة اللعبة الدائرة في لبنان وعليه، انطلاقاً من أن أزمات المنطقة متداخلة ببعضها كما تتداخل مصالح اللاعبين أنفسهم فيها. لكن السؤال هو: هل يكون إقرار المحكمة فرصة لإعادة فتح مسارب الحوار بين اللبنانيين؟ أم يجري التعامل معها كشحنة لرفع مستوى التوتر والتصعيد؟