أسامة القادري
يعاني أهالي منطقة «دير زنّون» في البقاع غياب الدولة عنهم على الرغم من المشاكل الكبيرة التي يرزحون تحتها وأبرزها «مستوطنة النّور» القائمة قربهم وما يسببه سكّانها من مشاكل اجتماعية وبيئية. غير أن المشكلة الأبرز تكمن في غياب مرجعية رسمية يعودون إليها

عندما يتردّد اسم منطقة «دير زنّون»، يتبادر إلى أذهان أهالي البقاع سريعاً جملة من الأحداث السيئة: إما مشكلة أمنية مع «النّور» المقيمين فيها، أو حادث سير يضاف إلى مئات الحوادث التي يتعرّض لها المواطنون على الطريق الأخطر في البقاع، وفي «أحسن» الأحوال استمرار انبعاث روائح معامل الأعلاف غير المرخصة أو حرق النفايات التي تسبّب مشاكل بيئية لا تنتهي لأهالي المنطقة.
هذه الصورة التي تشتهر بها دير زنّون جعلت كثيرين من أبنائها يخجلون من التعريف بالمنطقة التي ينتمون إليها، محمّلين المسؤولية بلدية عنجر التي يتبعون لها عقارياً، لكنهم يفتقرون إلى أبسط خدماتها، «الإنارة أقلّ شيء»، وبالدرجة الثانية «المستوطنة»، كما يسمّونها، التي تقيم فيها نحو 250 عائلة من «النّور».

شجارات يومية وروائح كريهة

تقع «دير زنّون» على طريق دمشق الدولية، وتبعد 13 كلم من شتورا، و4 كلم من الحدود اللبنانية السورية. لم تتحوّل هذه الرقعة بعد إلى قرية لتعيش ضمن قانون البلديات، بل بقيت على حالها بسبب الترضيات الإقطاعية التي كانت تتحكّم بالأراضي آنذاك والتي ما زالت بعض استملاكاتها تعود إلى عائلات بيروتية إقطاعية، على رغم أن الانتداب الفرنسي وزّع البعض منها على «أرمن» عنجر بعد فرزِها إلى عقارات زراعية متساوية تصل مساحة العقار الواحد إلى 7 دونمات.
ليست المسافة الجغرافية وحدها ما يمكنها أن تدلّ إلى «دير زنّون»، يكفي أن تتجاوز بلدة بر الياس حتى تجد نفسك في عالم آخر، حيث الإنارة المتوجبة على البلدية منعدمة، فترزح الطريق الدولية في ظلام دامس وتنتشر الروائح المنبعثة من النفايات المنتشرة على جانبي الطريق المليئة بالحفر، علماً أن الجزء الأكبر من أراضي «دير زنّون» يتبع مدينة عنجر عقارياً، لكن يبدو واضحاً للعيان الفرق بين ما يعانيه السكان من فوضى عمرانية لا ضابط لها في دير زنّون، وما تنعم به عنجر من الهدوء والرتابة والنظافة ودوريات الشرطة البلدية التي تنظّم الحياة فيها، إذ لا تعرف «دير زنّون» البلدية إلا وقت الاستحقاقات المالية المترتّبة على السكانأسباب كثيرة تقف خلف المشاكل التي تعانيها المنطقة، أبرزها إقامة نحو 250 عائلة من «النّور» أو «الرحّل» فيها منذ أوائل التسعينيات من القرن الماضي، تنبعث من خيامهم المصنوعة من «الخيش» و«النايلون» روائح كريهة ناتجة من عظام حيوانات وخردة ونفايات، ويضاعف من هذه الروائح تحوّل «نهر الغزيل» إلى مصبّ للمياه المبتذلة والنفايات المرمية على ضفتيه ووجود ما يزيد على عشرين «بؤرة» لجمع الحديد والخردة، عدا عن معامل الأعلاف غير المرخصة التي لا تخضع للشروط القانونية والبيئية، ما أدى إلى تفاقم التلوّث البيئي والأمراض. ويحمّل المواطنون «النّور» المسؤولية عن هذه الفوضى التي يعيشونها في منطقة كانت تشكّل منتجعاً صيفياً لأهم رجالات لبنان السياسيين ويدعون إلى زيارتهم للتأكد.
في «المستوطنة»، كان يرتفع صوت شجار امرأتين اختلفتا على ملكية سجادة مهترئة، لتنطلق شرارة الاشتباك الذي يشارك فيه الجميع. لا أحد يقف على الحياد، الكلّ في «المعمعة» بمن فيهم الأطفال الذين يسارعون إلى جمع الحجارة وتقديمها لأمهاتهم اللواتي يتراشقن بها مكيلات في الوقت نفسه سيلاً من الشتائم بلغة غير مفهومة. أما الرجال فسلاحهم العصي والسكاكين (الشبرية). أما من كان يملك منهم سلاحاً فلن يتردّد في إطلاق الأعيرة النارية.
حصيلة هذا الشجار كانت «عشرة جرحى اثنان منهم في وضع خطير، وأحد عشر موقوفاً لا يملكون أوراقاً ثبوتية، واستنفار عسكري وأمني امتدّ من الخامسة مساء حتى صباح اليوم التالي»، وفق ما أفادنا به مصدر أمني، وأكد لنا أن هذه المشاكل تكاد تصبح يومية «تعوّدنا على مشاكلهم التي لا تعد ولا تحصى، إلا أننا أصبحنا نتخوّف من حالات كهذه قد تحوّل المنطقة إلى بؤرة أمنية خطيرة»، موضحاً أنه «كثيراً ما اعتقلنا مطلوبين يحتمون في هذه الأماكن بصفة نَوَر مدّعين عدم حيازتهم أوراقاً ثبوتية». ويعيد سبب تفاقم هذه المشكلة إلى «عدم وجود قرار بالإزالة، وعدم تحرك البلديات المسؤولة عن هذه المنطقة».

المواطنون والبلدية

يعرض المواطن أحمد جمعة، الذي يسكن بالقرب من «المستوطنة»، واقع معاناته وعائلته: «يعاني أطفالنا أمراضاً «صدرية»، جراء تنشّقهم الروائح التي تنبعث من العظام التي يجمعها «النّور» في أكياس، والنفايات التي يحرقونها في منتصف الليل، بالإضافة إلى أصوات شجارهم الدائم ما يجعلنا في قلق دائم على أولادنا».
يؤكد خالد هيفا تقديم الأهالي العديد من الشكاوى لأن الموضوع يؤثر فيهم على أكثر من مستوى، «لقد منعنا أنفسنا من زراعة أراضينا لأننا لم نعد قادرين على ضبط أولادهم الذين يخربون مزروعاتنا. وسبّب وجودهم هنا تدنّي أسعار الأراضي»، مؤكداً عدم وجود حل إلا «أن نترك نحن المنطقة»... لكن إلى أين؟
ويذهب محمود البقاوي إلى اعتبار الحرب الاسرائيلية الأخيرة على لبنان «رحمة لنا، لأنها دفعت النّور إلى الهرب لكونهم كانوا يقطنون بالقرب من جسر دير زنّون»، يضيف «صدّق صرنا نخجل أن نقول إننا ننتمي إلى دير زنّونويحمّل خالد الحروك بلديةَ عنجر المسؤوليةَ عن «مصيبتنا الكبيرة، إذ نحن نتبع عنجر عقارياً، لكننا لا نتبعها انتخابياً، من هنا يمكن فهم سبب الإهمال». يضيف «في السابق كان المسؤولون يحتجّون بأن اللواء (السوري) غازي كنعان هو من يحمي النّور، الآن رحل السوريون ومات اللواء، فمن يسمح لهم بهذه الفوضى؟».
يعيد رئيس بلدية عنجر سيبوه ساقايان سبب التقصير في دير زنّون إلى الإمكانات المالية التي تفتقر إليها البلدية «لا يوجد في البلدية إلا شرطيان وبذلك لا يستطيعان ملء الفراغ الحاصل في دير زنّون وضبط الفوضى»، رافضاً تحميل البلدية مسؤولية ما يحصل، «بل أصحاب الأراضي الذين يؤجّرون أراضيهم إلى النّوَر». ويؤكد ساقايان أن الاعتراضات التي يتقدم بها الأهالي «لم تكن قانونية خطيّة، بل شفهية». وعن غياب الإضاءة وسط الطريق الدولية التابعة لمدينة عنجر، أوضح أن «السبب يعود الى أن هناك مستحقات على وزارة الأشغال لمصلحة وزارة الكهرباء، على رغم أنها جاهزة للإنارة وما زلنا ننتظر الإفراج».




مشاكل متراكمة وهي كانت شهدت قبل قدوم «النور» إليها، لجوء مهجّرين من «تلّ الزعتر» خلال الحرب الأهلية اللبنانية، ينتمون إلى القرى السبع التي احتلتها «إسرائيل» وضمّتها إلى القرى الفلسطينية التي احتلتها عام 1948. وقد أقام هؤلاء في بيوت من الخشب و«التوتيا» أقاموها على جانبي الطريق الدولية. وبعد تسوية أوضاع المهجّرين في لبنان عوّضت عليهم وزارة المهجرين، فتقاضى كلّ منهم مبلغ خمسة آلاف دولار مقابل إخلاء المنطقة، واشترى الأهالي بهذا المبلغ قطعة أرض بنوا عليها منازلهم وتحولت المنطقة الى «ضيعة»... تفتقر الى تسوية لكونها تحت إشراف بلدية عنجر. وسبّب وضع المنطقة الخاص تدنّياً في أسعار أراضيها مقارنة مع أسعار العقارات المجاورة، حيث يفوق سعر المتر الواحد في منطقة لا تبعد أكثر من كلم واحد 50$ فيما لا يتجاوز سعره 15 دولاراً في منطقة «النور».