فداء عيتاني
الاشتباكــات لــم تفــاجئ الجميــع و«حفــرة الضنّيــة» تتّســع

في لقاء عقده الخميس مع إحدى الشخصيات اللبنانية، ناقش غير بيدرسون ملف الانتخابات الرئاسية في مكان غير بعيد عن الطرق العامة التي كانت تمر عليها تعزيزات الجيش اللبناني المتجهة إلى معركة ستبدأ صباح اليوم التالي (الجمعة). وحين طرح محدّثه من المعارضة اسم قائد الجيش العماد ميشال سليمان كمرشّح قوي لرئاسة الجمهورية، ردّ بيدرسون بطريقة لا تخفي سروره «لقد غرق ميشال سليمان في مياه نهر البارد».
«لم تكن المعركة التي لا تزال مشتعلة مفاجئة للجميع»، يقول أحد علماء الدين الشماليين. بينما يسأل أحد المتابعين للحركات الجهادية في الشمال «ماذا بقي للجيش من خيارات»، وخصوصاً بعد اشتعال أوّل مؤشّرات النزاع في مخيم عين الحلوة.
المتابع للحركات الجهادية يقول «إن أركان السلطة لدينا قد تعلّموا في الغرب وعاشوا بعيداً عن الشرق وتعاملوا مع الغربيين، حتى فقدوا سحر الشرق، ونسوا أن المارد يتمرد على صاحبه، وأن الافعى بسبعة روؤس كلما قطع لها رأس نبت غيره». أمّا عالم الدين الذي تحوّل من الماويّة والماركسيّة إلى الإسلام الجهادي فيجلس في منزله في أبي سمراء ويتحدّث عن فرقة الحشّاشين الإسلامية التاريخيّة، التي لم يكن يمتنع رجالها عن إلقاء أنفسهم من أعلى أبراج قلعتهم فقط للاستجابة لأمر أميرهم حسن الصباح.
«كلما أخذت منهم أكثر يزيد حجمهم»، يقول عالم الدين. «ليست هي أحجية الحفرة، هي القاعدة والمد الذي تعيشه اليوم». ويتابع وهو يشير إلى أن المعالجة الأمنية لا تعطي مفعولاً مرتجى في وقف زحف القاعدة. ويتنبأ بأن هذه القوى التي تنتشر عبر فتح الإسلام وغيرها من المجموعات الجهادية، كلما ضربتها أكثر تراكم لديها البشر والإمداد. كما ان الغرب والأميركيين خاصة «لم يتمكنوا من فهم ظاهرة الكاميكاز الإسلامية وتعاملوا معها كما سبق أن تعاملوا مع الكاميكاز الياباني في نهايات الحرب العالمية الثانية، عبر توجيه ضربات شديدة. إلا أن الكاميكاز الإسلامي لم يرتدع بل زاد من قسوته».
يبدو الجيش اللبناني عالقاً في معادلة سياسية وتاريخية وإقليمية متشعبة. ومن لم ينتظر ما حصل في مخيم عين الحلوة ليل أمس الأول وما يمكن أن يحصل في أية لحظة، لا يعرف من هم الإسلاميون الجهاديون. ومن يميز كثيراً بين الإسلاميين الجهاديين بعضهم عن بعض يصل إلى حدود الصدمة ممّا سيراه قريباً. فالإعلان عن مقتل أبو رياض القيادي في حركة فتح الإسلام والقادم من مخيم عين الحلوة كان لا بد أن يثير ردة فعل مشابهة. كما ان تطور الأحداث واستعدادات الإسلاميين للتحرك في أكثر من مكان، وخصوصاً عين الحلوة، يتطلّب دراسة ميدانية. وجدت مجموعة جند الشام مبرّراً لها بالتأثر بمقتل أبو رياض، إلا أنّ ما جنتْه مجموعة جند الشام وعصبة الأنصار أكبر بكثير، حيث أصبحت تعرف الآن استعداد فريقين رئيسيين هما: الجيش اللبناني وحركة فتح (السلطة الفلسطينية) للقتال، وغزارة نيرانهما وسرعة تحركهما... إلى آخر التفاصيل الميدانية.
«ما الذي بقي للجيش من خيارات؟»، يسأل أحد المطّلعين على الحركات الجهادية. «من حي واحد فرّ 17 مقاتلاً، وثمة أكثر من سبعين إصابة كبيرة في الأرواح، والجيش فقد عدداً من الآليات، وحركة فتح الإسلام تنفذ ليلياً عمليات تقدم وتسلل بهدف أسر جنود من الجيش اللبناني. وقد وصل بها الأمر إلى حد الاستيلاء على آليات للجيش لم تتمكن من تشغيلها فأفرغتها من الذخيرة وأشعلت فيها النيران»، يضيف الرجل وهو يحتسي قهوته في أحد مقاهي طرابلس المتوسطة.
«أي شيء سيوافق عليه الجيش». يتفق هذا الرأي مع ما سمعه وسطاء جدد وما تقدره القوى التي تتابع بدقة الميدان السياسي، بينما يشير أحد علماء الدين الناشطين إلى أن «الجيش يفترض أن يعلم أنه لا يقاتل فتح الإسلام، بل هو ضحية التجاذب السياسي الداخلي أولاً وقبل كل شيء». ويقول أحد الذين التقوا الوسطاء الجدد إن المعلن هو مطالبة فتح الإسلام بتسليم المطلوبين تحت إشراف مراقبين عرب، ومعاملتهم معاملة مشرّفة ولائقة، وترك حرية العمل السياسي للباقي من غير المطلوبين. أمّا غير المعلن فهو أنّ «أي حل مقبول لدينا». ويعزز أحد المتابعين للحركة الجهادية هذه المعلومات بالقول إن فتح الإسلام هي عصبة الأنصار الجديدة». ويكرر عالم الدين الجهادي بأن «ما حصل مع أبو محجن السعدي سيتكرر مع شاكر العبسي، وما حصل مع عصبة الأنصار سيتكرر مع فتح الإسلام». إلا أن المراقب للمجموعات الجهادية ينبّه إلى أن انتصار فتح الإسلام اليوم معناه تشكيل رافعة لكل القوى الإسلامية السنية المشابهة في لبنان، وهي «أصبحت موجودة في كل المخيمات وفي كل المناطق السنية».

الحفرة

تكبر الحفرة وفق هذا المنطق. «لقد حفر باسم كنج (أحد قياديي مجموعة الضنية) أكبر من قبره، ومن يومها والكل يحفر باتساع، المقاتلون والجيش والسلطة السياسية وكل من لم تفاجئه العملية التي بدأت في 20 من الشهر الماضي»، يقول عالم الدين الواسع الصلة بالمجموعات والأفراد الناشطين، والمعتزل العمل الميداني أو الحزبي.
ويضيف الرجل الذي احتل الشيب لحيته وشعر رأسه والذي حاور مطولاً الكرسي الرسولي في لبنان، والذي يعرف موقع ودور هذا البلد، إن «القوى الأمنية التي نفذت عمليات الدهم وفشلت كانت تحت وقع المفاجأة، وكذلك الجيش اللبناني، وشاكر العبسي استيقظ وسط حصار مجموعة من «الأصدقاء» لجماعته، وكان مباغتاً، أما من لم يفاجأ فهو ...» ويسمي بضعة أسماء، ليضيف «والأميركيون و(جهة عربية)». هؤلاء كانوا يعلمون إلى أين سيذهبون بالجيش وبالبلد.

حديث المخيم

لا يطيل من يجيبك من داخل مخيم نهر البارد الحديث. الحوارات الباردة التي تجري خارجه ليست نفسها التي تجري مع القاطنين في الداخل بين أزيز الرصاص وانفجار العبوات. ويقطع أحد القياديين في فتح الإسلام حواره الهاتفي بعد سقوط قذيفة هاوتزر بقربه، ليكتفي بالقول، «هذه نتيجة استعمال الموبايل لوقت طويل» ثم يغلق الخط، بينما يتحدث أبو سليم طه لمدة سبع دقائق قبل أن يطلب إنهاء المكالمة.
ككل يوم يسخر طه ممّا يسمّيه «بطولات الجيش»، ويضيف أن «معنويات الجيش اللبناني في الحضيض، وقتلاه بالعشرات». وحين تطالبه ببعض الواقعية وبالأمانة في نقل الواقع يقول «في كمين ليلة أمس (الأول) في منطقة المحمرة خسر الجيش اللبناني 15 جندياً، وكما كان يحصل مع الجيش الأميركي الذي واجهناه في العراق، يجب ضرب الحصيلة التي يعلن عنها الجيش رسمياً بخمسة أضعاف».
وحين تطالبه بتفاصيل وتشكك بكلامه، فإنّ الناطق الإعلامي باسم فتح الإسلام يكتفي بتفصيل ما لديه من معلومات: «حصيلة القتلى لدى الجيش اللبناني هي 45 خلال الأيام الثلاثة الأخيرة، وهذا أدنى رقم لدينا، ولدينا في المقابل 5 قتلى بينهم أبو رياض و7 جرحى، ولكن اعذرني فلا يمكنني التصريح عن أماكن سقوطهم أو أسمائهم أو جنسياتهم».
ويضيف طه انه لا إمكان لإحصاء حجم المنازل التي دمرت بالكامل في المخيم ولا القتلى هناك، وخاصة أن العديد من المنازل دمرت على رؤوس أصحابها، ودفنوا تحت أنقاض بيوتهم، كما ان القذائف تسقط على الجثث فتبعثرها ولا يعود ممكناً التعرف إلى عددها. ويتابع «اليونيفيل قصفت بحراً أحد الملاجئ في منطقة الدامون، وبقي من داخله فيه إلى الآن».
وحول استنتاجهم بأن اليونيفيل تشارك في العمليات، يقول طه إنّ القصف البحري الذي يتعرضون له، إضافة إلى حجم الدمار الذي تحدثه المروحيات، وهي «ليست مروحيات الجيش اللبناني، فالغازيل التي استقدموها من الإمارات لا يمكنها لا تسليحاً ولا عدداً إحداث دمار ومناورات مشابهة، إضافة إلى الزوارق التي تحاول الاقتراب من الشاطئ، إلا أنها تبتعد فور تصدينا لها».
ولا تغلق فتح الإسلام باب الحوار السياسي، ولكن السياسة بالنسبة لطه «هي سياسة شرعية ولا يمكننا تسليم أي من إخوتنا، ونحن كنا ضد هذه المعركة أساساً، ولكننا الآن ندافع عن أنفسنا. وسبق أن طرح علماء فلسطين ملاحظات جدية وأجبناهم بإيجابية، ثم لم نسمع منهم شيئاً، ويتحمل الجيش اللبناني والحكومة اللبنانية المسؤولية لكونهما لا يطرحان حلولاً سياسية».