جان عزيز
ماذا لو كانت لأحداث نهر البارد ـــــ والآن عين الحلوة ـــــ خلفيات، وبالتالي نتائج، أبعد من مسألة سلاح أصولي سني فلسطيني؟ وماذا لو كان النزاع الدائر مرتبطاً أصلاً، أو أدّى بحكم اندلاعه، إلى ارتباط أكثر بعداً وعمقـاً من كل الظاهر؟.
السؤال يستثيره كلام «لبنانيي واشنطن» هذه الأيام، وخصوصاً كلام النــــاشطين منهــم على خطوط «قوى التفكير» و«العصف الدمـــــاغي» في أوساط قواعد اتخاذ القرار الأميركي. يقـــــول أحد هؤلاء إنه قبل خمس عشرة سنة كاملة، حمل أحد القياديين اللبنانيين إلى العاصمة الأميركيــــة ملفاً يطرح مقاربة نوعيــــة لحل الأزمة اللبنانية، على أســـــاس «لامركزية موسّعة» قابلــــة للتطوير سياسياً وتدريجياً. يومــــها وضع الملــــف على طاولة إدوارد دجيرجيــــان، الــــذي كان يشغل منصب دايفيــــد ولش الحالي في وزارة الخارجية الأميركية. بعد الحديث الشفهي، اكتفى دجيرجيان بابتسامة تعويضاً عـــــن جرأته في رد الملــــف إلى مقدّمه، وعــــدم تسلّمه منه حتى.
أما اليوم، يتابع الناشط اللبناني ـــ الأميركي، فلا يلتقي مسؤول أميركي معني بالوضع في بيروت وجوارها، بأحد «اللوبيست»، إلاّ ويدور حول ضيفه دورات مناوراتية عدّة، قبل أن يفاجئه بالسؤال: «وماذا عن الفدرالية في لبنان؟» الكلمة نفسها، كمفردة وكمفهوم، سقطت من المحرّمات الأميركية حيال لبنان منذ أكثر من سنة. واليوم صار السؤال صريحاً مباشراً عن طلب دراسات وأبحاث وإحصاءات ومعطيات رقمية حول الموضوع.
«أكثر من عامل في الواقع، يدفع أهل واشنطن إلى البحث في الإشكالية»، يقول أحد أركان مؤسسة دراسية عاملة على خط المسألة. أولاً هناك القراءة الأميركية للوضع العراقي واحتمالات تطوّره. مع الإدراك للتأثير الممكن لهذا التطور على المحيط، بدءاً بسوريا وصولاً إلى لبنان، على قاعدة تأثير الجاذبية، أو «الطرد المركزي» لصورة بغداد ــــــ كبرى عواصم المشرق ــــــ بعد أعوام آتية. ثم هناك ثانياً همّ السلاح الشيعي في لبنان، والاعتقاد بأن إعطاء هذه الجماعة إدارة ذاتية ما، في نطاق جغرافي معيّن، يقدّم عاملين اثنين قد يساهمان في تذليل عقبة السلاح. الأول تعويضها جغرافياً عن نقص دورها في السلطة المركزية، وثانياً إلهاؤها داخلياً في حركتها الذاتية، بحيث يتحوّل سلاحها عبئاً شيعياً خاصاً. ويبقى ثالثاً وأخيراً وفق الهمّ الأميركي، إدراك بمداهمة الوقت لتحقيق صيغة فدرالية كهذه. ذلك أن العنصر المسيحي يفرض نفسه ضرورة واجبة الوجود لقيام هذا الطرح، لا من حيث القابلية للفكرة والقدرة على تسويقها وحسب، بل أيضاً كعامل واقٍ للصدمات بين مكوّنات الخارطة اللبنانية المحتملة.
لذلك، يسأل أهل واشنطن المهتمون بالموضوع، وفي شكل ثابت، عن نسبة المسيحيين في لبنان اليوم. وبين أرقام «الورق»، أو لوائح القيد الانتخابي وحساباتها الديموغرافية، وبين أرقام «الأرض» المستقاة من أكثر من مصدر، يحلو لأهل واشنطن الإجماع على رقم 34 في المئة، كنسبة للوجود المسيحي في لبنان. ويعتقد هؤلاء أن هذه النسبة تبدو مثالية للعمل على الدفع قدماً بالمشروع. أما إذا تدهورت أكثر فتصير الاستحالة واقعة، انطلاقاً من انعدام واقي الصدمات، أو رفض الجماعات الأخرى ما يصير مجحفاً بحقوقهم، إذا ما اضمحلّ المسيحيون أكثر.
هكذا يبدو عامل الوقت داهماً بالنسبة إلى أصحاب الفكرة في واشنطن. وهذا ما ينعكس على ما يبدو فراغاً وسطياً واضحاً في الحركة السياسية الأميركية حيال لبنان. ففيما المسؤولون «السياسيون» يقاربون استحقاقات الأسابيع المقبلة، من محكمة ورئاسة وحكومة وسوى ذلك، ينكبّ المسؤولون «الدراسيون» على البحث في صيغ انقلابية أو تغييرية جذرية.
غير أن خطوات كثيرة على الأرض، تبدو كأنها تجمع بين المستويين. وآخرها الحديث عن ترتيب «الوضع السني»، تمهيداً «للقبول بطرح فدرالي». ففي حين يمتدّ الانتشار الشيعي والدرزي والمسيحي، على مساحات «مقنعة»، يشهد الانتشار السني حال تقطّع وضيق مدى. لذلك يجري حديث هامس عن تصحيح هذا الوهن، بتحصين الرقعتين السنيتين حول صيدا وطرابلس. الأولى باعتبارها تشمل إقليم الخروب، وتتمدّد بالتغيير الحاصل في الهويتين العقارية والديموغرافية لقسم من ساحل الشوف المفرغ من المسيحيين، والثانية بتعزيز «تناغمها السياسي» من جنوب طرابلس حتى عكار.
في هذا السياق، قد تكون المعارك مع الفلسطينيين عاملاً مساعداً. فهي تخفّف النتوءات السياسية داخل هذه الرقع السنية، وقد تمثّل مدخلاً ملتبساً لاندماج فلسطيني أكبر في المحيط. بما يعزز تكافؤ المناطق وندّيتها، تمهيداً لدخولها في صيغ نظامية جديدة.
تبقى تفاصيل وأدلّة نقض كثيرة؟ طبعاً، فالسؤال في واشنطن لا يزال في مرحلة ما قبل الجواب...