عكار ـ غسان سعود
تطلّ قاماتهم من بعيد، يمشون مجموعة واحدة، تسابقهم في خطواتهم زغاريد النسوة. لا يتمالك والد أحدهم أعصابه، يطلق الرصاص ابتهاجاً. عادت البذلات المرقّطة بقاماتها المنتصبة فارتجّت البلدة من وقع خطواتهم وقرع الأجراس. بعفوية، يرتسم لقاء استثنائي بين العسكريين وأهلهم. يتهافت العشرات إلى ساحة عندقت، جارة القبيات شمال عكار، للترحيب بأصحاب الزنود السمر، العائدين أحياءً بعد أن شهدت البلدات العكارية خلال الأسبوعين الماضيين مواكب تشييع لأبناء عادوا في نعوش. وكأنّ البقاء على قيد الحياة بات نصراً بحدّ ذاته. تخرج النسوة إلى ساحة البلدة للاطمئنان على أبناء جاراتهن. ينادي أبو هيثم على شربل ليكثف قرع الجرس وليُسمع القرى المجاورة كلّها.
في بلدة أخرى، نسي الناس خلافاتهم السياسية، البلدية، والعائلية وتوافدوا إلى منزل أحد الضباط الشباب الذي لم يمرّ أكثر من عامين على تخرجه. انتظروه عدة ساعات... تأخّر وصوله بسبب تنقّله بين البلدات العكارية، معزّياً أهالي زملائه الذين فقدهم في الأيام الماضية، ليجد عند وصوله إلى منزله عشرات الأقرباء يتدافعون ليسلّموا عليه ويشدّوا عزيمته، ويبلّغوه استعدادهم القيام بكل ما تطلبه المؤسسة العسكرية. فيما كانت دموع الفرح وغصّاته تغدر بأشقّائه وزملائه وتكشف خوفهم عليه، والقلق الذي عانوه خلال الأسبوعين الماضيين. وسط تلك الزحمة، يفسح الجمع بعفوية أمام والدته لتشقّ طريقها صوب كتف ابنها المزيّن بالنجوم. تمسك الأم وجه ابنها، تتأكد بأصابعها من ملامحه، قبل أن تغمره وتستسلم للبكاء بضع دقائق، تقبّل جبين «ضابطها»، تسأله عن حاله، وعن «الأكلة» التي يرغب بتناولها، فيجيبها بابتسامة تتشارك عيناه وشفتاه في رسمها، متمتماً «أنام ساعتين ثم أخبركم بكلّ ما تريدونه».
هكذا، بعد أكثر من خمسة وعشرين مأتماً، تسرّب الفرح إلى عكار، أمس، إثر قرار قيادة الجيش، الذي لم يعلن لأسباب أمنية، السماح للعسكريين بالعودة إلى منازلهم ثماني وأربعين ساعة بعد قتال دام أسبوعين على جبهة نهر البارد.
عاد بعض العسكريين إلى بلداتهم بهدوء، بعدما سبقهم إليها زملاء قضوا في أرض المعركة. مشتى حمّود واحدة من تلك البلدات التي يسكنها أكثر من خمسة آلاف ناخب، طريقها محفّرة، تصلها المياه مرة في الأسبوع، والكهرباء ست ساعات يومياً. وتعيش فيها عائلات تضم أكثر من ثمانية أفراد بأقل من أربعمئة ألف ليرة شهرياً، الأمر الذي يضطر أبناءها لترك مقاعد الدراسة والبحث عبثاً عن فرصة عمل، ما يحوّل الانضمام إلى مؤسسة الجيش حلّاً وحيداً أمامهم فينضوون في صفوفه، ويصبح بالنسبة لهم بموازاة الطائفة والوطن وقبل الزعيم والحزب. في مشتى حمّود، يفضّل الناس عدم الكلام في السياسة، رغم أسفهم «لزج الجيش في هذه المعركة الخاسرة»، و«عدم تنسيق المعلومات مع مخابرات الجيش كما يُفترض»، ويوجّه أحد الشيوخ دعوة إلى المتضامنين مع الفلسطينيين لزيارة عكار من وادي خالد إلى ببنين لمشاهدة بؤس الناس ومعاناتهم، «فالحال ليست أفضل من حال المخيمات».
بالعودة إلى منازل العسكريين المسرّحين، قبل أن تغرب شمس الأربع والعشرين ساعة الأولى، يستيقظ الأهل من سكرتهم، غداً سيعود الأولاد إلى الجبهة! الاطمئنان عليهم بات أصعب بعد كل الروايات التي أخبروها عن تمرّس عناصر «فتح الإسلام» على فنون القتال. هناك في عكار الآن من يكفر بالنعمة التي شكر الله عليها طويلاً.