strong> بيسان طي
  • أقام الفلسطينيّون فيه بعد النكبة وتحوّل اليوم حضناً للجميع

    ارتبط اسم مخيم شاتيلا بالمجزرة التي وقعت فيه وفي مخيّم صبرا عام 1982. لكن أسماء متعدّدة برزت لهذا المخيّم منذ ذلك التاريخ، فهو لم يعد حكراً على الفلسطينيين بل يقيم فيه أبناء جنسيات مختلفة يجمعهم أمر واحد: الفقر

    «هنا سوق الحميدية، المخيّم يقع على بعد عشرات الأمتار»، يصحح بائع الخضر بلهجته اللبنانية معلومات الزوار الأجانب، فالمخيم لا يبدأ من مقبرة شهداء مجزرة صبرا وشاتيلا كما كانوا يعتقدون، رغم رمزية المكان.
    «هنا سوق الحميدية»، لقد استعار أحد «هوامش» العاصمة بيروت اسم السوق الدمشقية الشهيرة ليطلقه على هذا المكان الشعبي الملاصق للمخيم والذي يكثر فيه البائعون السوريون، ويُباع فيه كل شيء بأسعار زهيدة. إنه سوق الخضر والملابس البالية والأحذية وألبومات الأغاني والأفلام المتنوعة بما فيها البورنو، وعلى بعد أمتار منه ثمة أفران ومطاعم ومقهى إنترنت.
    «كل شيء»، هذا ما يُقال أيضاً عن مخيم شاتيلا المتاخم للعاصمة، فيه كل شيء، وجنسيات مختلفة، إنه إذا صح التعبير «مخيم كوزموبوليتي»، مخيم الفقراء من مختلف الجنسيات. وعلى رغم التحديد الجغرافي الذي يصرّ عليه اللاجئون الفلسطينيون فإن جغرافيا المخيم تمددت في ذهن سكان المنطقة المجاورة إلى أن لامست حدود الطريق المؤدية إلى السفارة الكويتية، تلاصقت البيوت وتداخلت حتى سدّ بعضها عن بعض حدود الشمس...
    هنا، تتلاصق الأبنية لتمحو صور بدايات المخيم. الخيم لم تعد موجودة بالطبع، وغابت المساحات الشاسعة التي توزع فيها اللاجئون الآتون بمعظمهم من بلدة مجد الكروم بعد النكبة. عاشوا في خيمهم في الحي الغربي للمدينة الرياضية، ثم نُقلت الخيم إلى شاتيلا بعدما استأجرت منظمة الأونروا قطعة الأرض هناك، جاء الشتاء بأمطاره وتلاه آخر فيما اللاجئون يعانون البرد في خيمهم، فاحتالوا على القوانين الصارمة وراحوا «يطوّرون» من الخيم فيقصّون التنك الذي كانت تُرسل لهم فيه الإعاشات ويجعلونه جدراناً للخيم القماشية.
    عام 1963 سمحت الدولة اللبنانية للاجئين ببناء بيوت من حجارة شرط أن يكون سقفها من الأترنيت، وبُنيت الحمامات بالسر وفق ما تقول الباحثة دلال ياسين المتابعة لشؤون اللاجئين الفلسطينيين.
    تغيرت الحال كثيراً مع دخول منظمة التحرير في السبعينيات من القرن الماضي. انتعش الفلسطينيون في المخيم، تغيّرت بعض أحوالهم، لكن المجزرة تحوّلت تاريخاً فاصلاً في حياة «شاتيلا» على أكثر من صعيد. عادت صور البؤس لتملأ المكان، الجثث والدماء في المجزرة مثّلت جزءاً من ذاكرة لا تُمحى، بل صارت المقبرة قبلة مؤمنين بالقضية الفلسطينية في العالم، ومحجة يزورها في 16 أيلول إيطاليون وفرنسيون ولبنانيون وفلسطينيون وغيرهم.
    لكن الباحث عن شهود على المجزرة لن يجد إلاّ قلة منهم، بعضهم «خرج» مع منظمة التحرير وآخرون انتقلوا إلى مخيمات أخرى، حتى «أم حسن» التي ملأت صورها الصحف العالمية وهي تحكي عن أولادها الذين خطفوا خلال المجزرة، هجرت شاتيلا إلى مخيم برج البراجنة بعد الاجتياح الاسرائيلي لبيروت.
    وخلال ما عُرف بـ «حرب المخيمات» هجر شاتيلا عدد كبير من الفلسطينيين، بعد هذه الحرب ظهر بعض التغيير الديموغرافي في المخيم إذا صح التعبير، توسعت حدوده وتولّت أموره لجنة المتابعة والإعمار التي تألفت من فصائل كانت بمعظمها موالية للنظام السوري. وفي هذه الفترة شُيّدت مبان عند حدود المخيم لتكون سور حماية له، وارتفعت فيه مبان من ثلاث طبقات لم يشرف على بنائها مهندسون مختصون، وهي مبان من دون أساسات بمعظمها، وقد تنهار إذا وقع زلزال متوسط القوةهوية» المخيم المتوسّع تغيّرت كثيراً وتحديداً مع بداية عملية إعادة إعمار بيروت مطلع التسعينيات. جاء إلى العاصمة اللبنانية عمال سوريون وأكراد وتركمان وبدو ومن جنسيات أخرى، وأقاموا في شاتيلا، حيث إيجارات البيوت غير مرتفعة وكذلك أسعار الحاجيات الأساسية للعيش، إضافة إلى أن هؤلاء العمال لا يشعرون فيه بأنهم منبوذون فسكان المخيم لا يحاصرونهم بـ «نظرات عنصرية».
    في المخيم أيضاً لبنانيون يعيشون تحت خط الفقر، ومنهم من جاء من وادي أبو جميل بعدما تلقى بعض سكان تلك المنطقة تعويضات منخفضة، فلم يجدوا مكاناً يؤويهم سوى شاتيلا، «هذا المخيم أبو الفقراء» يردد كثير من سكانه.
    تشير التقديرات المختلفة إلى أن عدد سكان المخيم 17 ألفاً، وتقول إحصائيات الأونروا (لعام 2005) إن عدد الفلسطينيين فيه نحو 8200 ــــــ فيما كانوا 12335 عام 2003. وتجدر الإشارة في هذا الإطار إلى أن للهجرة دور في خفض عدد الفلسطينيين في المخيمات، تأشيرة الهجرة إلى الغرب أو الشرق هي حلم يراود كل الشبان تقريباً، بل إنهم يهجسون به في ظل انعدام الأفق في حيواتهم. وتلفت ياسين إلى أن عدداً كبيراً منهم بات يرفض إكمال تعليمه، وثمة جملة تُردد دائماً «إذا حصلنا على شهادات فلن نجد عملاً، حيث العمل ممنوع علينا في هذه البلاد، فلماذا العلم؟»، أما من لم يستسلم لهذا اليأس فيكابد مصاعب كثيرة لإكمال تعليمه الجامعي بسبب ضيق ذات اليد، وثمة من يختار الانضمام إلى تنظيمات أو فصائل تدفع راتباً شهرياً يراوح بين 100 و150 دولاراً.
    النارجيلة رفيقة دائمة، حضورها بين شباب المخيم يفوق حضورها في المقاهي البيروتية، إنه «جيل النارجيلة» الذي «يدخن عليها فتنجلي الحياة» من دون أن يتغير شيء في يوميات المخيم.
    أحداث نهر البارد هي أيضاً لم تحدث تغييراً كبيراً في حياة أهالي شاتيلا، اللاجئون من المخيم الشمالي ليسوا كثراً ــــــ إذا ما قورن عددهم بمن لجأوا إلى البداوي أو نهر البارد ــــــ لكن الآتين من نهر البارد يؤلفون عنصراً جديداً في صورة المخيم، وفيما يستسلم أبناء شاتيلا للعدسات التي اعتادوها وباتوا يجيدون التعامل معها، فإن أبناء نهر البارد أمس لم يتعاطوا بالسهولة نفسها مع الصحافيين الذين رافقوا عناصر مكتب «حماس» في شاتيلا في جولة صغيرة لتفقد أحوال اللاجئين من نهر البارد.
    يصعب الجزم بأن في شاتيلا حضوراً سياسياً طاغياً لفصيل واحد، وقد تكون عائلة دالية اسماعيل خير تلخيص «للجغرافيا السياسية» في المخيم، فهي ابنة لأسرة من 11 فرداً. الأخوان الكبيران يناصران «حماس» والأوسط يفضل الجهاد الإسلامي، والأم تعشق أبو عمار و«منظمة فتح»، وزوج الشقيقة الكبرى كان عضواً في «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، وثمة من يناصر «الجبهة الديموقراطية»، أما الفتيات الصغيرات فقد اخترن المجموعات اليسارية الأكثر ليبرالية. وتتوزع على جدران البيت صور ياسر عرفات وجمال عبد الناصر والشيخ أحمد ياسين والسيد حسن نصر الله وتشي غيفارا وفدائيين وفدائيات... تماماً مثل جدران المخيم التي تكاد تكون اشبه بمجلات حائط مصورة.
    في بيت دالية لا وجود للأصوليين الإسلاميين، لكن في المخيم ثمة سلفيون يعيشون على هامش الحياة السياسية، ليس لهم اسم أو هوية محددة، هم موجودون بشكل شبه خفي، وكثر الحديث عنهم خلال ما عُرف بـ «أحداث الجامعة العربية»، فقيل إن بعضهم شارك في إطلاق الرصاص على شباب المعارضة اللبنانية. وهؤلاء السلفيون هم بالطبع ممن لم يكملوا تعليمهم، ولم يجدوا عملاً، ويبحثون عن شيء ما «يحققون من خلاله ذواتهم» كما بات معروفاً عنهم. مخيم شاتيلا مثل اللوحة التي لم يراع فيها الرسام تناسق الألوان، ثمة تناقض كبير في بعض مكوّناتها، هنا تتجاور أنواع مختلفة من التطرف، فعلى هامش حياة المخيم أيضاً تكثر «الموبقات» كما يردد بعض عارفيه، فيه مخدرات كما يُقال أحياناً، لكن هذه «صورة الليل التي لا يعرفها إلاّ الغارقون فيها» وتظل بالنسبة إلى عشاق النهار كلاماً غامضاً يرتكز على تكهنات ومواد أحاديث تنقل همساً من أذن إلى أخرى.




    من الأجداد إلى الأحفاد: الصور ذاتها الحاجة خديجة لم تهرب من عدسات المصورين في المبنى الذي لجأت إليه عشرات الأسر من نهر البارد أيضاً، الصغار والكبار هربوا من الصحافيين والمصورين، وظلت هي وابنها وكنّتها، يحكون قصة ترحالهم الجديد. تبكي وتردد أن أولاداً لها وأحفاداً لم يغادروا المخيم «قلبي يحترق عليهم»، يفسر ابنها بأن إخوته اعتقدوا أن الحسم لن يتأخر ففضلوا «البقاء في المخيم بدل بهدلة الشنططة من مخيم إلى آخر».
    يلفت في حديث بعضهم محاولته الحثيثة لتبرير قرار ترك المخيم، كانوا يقولون إن لهم أطفالاً أرادوا إطعامهم وقد انقطعت الماء والكهرباء وهدمت بيوت.
    في أحد زواريب شاتيلا يجلس محمد صبحي ندوة، الرجل يعاني إعاقة جسدية ويحتاج إلى عكازين ليتمكن من المشي، كان يشدد في كلامه على أنه لم يكن ليترك مخيمه لولا الخوف على أطفاله، تدمع عيناه كلما تذكر منزله، ثم يروح يسأل «لماذا يضربوننا؟ ألم نهرع لمساعدة الجيش اللبناني عندما قصفت الطائرات الإسرائيلية مركز العبدة في تموز الماضي؟».
    أما الموقف من «فتح الإسلام» فهو واحد بالنسبة إلى كل اللاجئين، يرددون أنهم يرفضون هذه الظاهرة، ويستغربون التأخر في معالجتها، لكنهم يعترضون على ضرب مخيمهم وعلى تعريض حياة المدنيين الفلسطينيين للخطر، ويدعون إلى اعتماد الحلول السياسية لاستئصال هذه المنظمة.
    لم يتوقع أبناء نهر البارد أن مخيمهم الهادئ سينقلب جحيماً «بغمضة عين»، ولم يتوقعوا أنهم بعد مرور نحو 59 عاماً على النكبة سيؤلفون من جديد مادة لصور تشبه في شيء منها صور أجدادهم الهاربين من الموت المتربص بهم في قراهم.