strong> عفيف دياب
  • غياب الشباب وتراجع منظمة التحرير أبعدا فلسطينيّي البقاع عن السياسة

    يعاني اللاجئون الفلسطينيون المقيمون في مخيّمات
    البقاع المشكلات الاجتماعية والمعيشية ذاتها التي يعيشها أبناء
    وطنهم في بقية المخيّمات. لكنّهم يتميزون بارتفاع معدّل الهجرة نحو أوروبا الغربية، وهو ما يؤثر على توزّعهم الديموغرافي

    يطلق على مخيم اللاجئين الفلسطينيين في بعلبك اسم مخيم «الدنمارك» بدل مخيم «ويفل» أو مخيم «الجليل». السبب هو ارتفاع نسبة مهاجري أبناء هذا المخيّم إلى الدانمارك والتي وصلت إلى 48.5% من مجموع المهاجرين. وتفيد دراسة نشرتها مؤسسة «شاهد» ــــــ المؤسسة الفلسطينية لحقوق الانسان ــــــ تحت عنوان «مؤشرات الوضع الاجتماعي والاقتصادي والصحي للاجئين الفلسطينيين في لبنان، مخيم الجليل في البقاع ــــــ مثال» بأن 77% من المستطلَعين لديهم أقارب من الدرجة الأولى في بلاد الغربة الثانية.
    هذه المعطيات هي أحد أبرز أسباب غياب هذا المخيّم عن الساحة. إذ لا يتذكر كثيرون وجود فلسطينيين في البقاع إلا عندما يتناول الإعلام موضوع العسكريين الموجودين في بعض جبال لبنان الشرقية. وحتى في الأحداث الاخيرة، بقي هذا المخيم بعيداً عن الأضواء، رغم أنه استقبل عدداً من النازحين من مخيّم نهر البارد، وإن بشكل محدود نسبة إلى بقية المخيّمات. فقد وصل عدد النازحين إلى البقاع إلى 112 عائلة تقيم عند أقرباء لها من القرعون جنوباً وحتى بلدة العين شمالاً.
    يعود الوجود الفلسطيني في البقاع إلى عام 1948، أو سنة «النكبة» كما يعبّر عنها كبار السن من الفلسطينيين في المنطقة. وصلوا في ذلك العام، كما يقول الحاج أبو طرّاف فاعور (84 عاماً)، إلى بلدة القرعون وما حولها من قرى لبنانية جماعات. مكثوا لفترة قصيرة في بلدة عنجر التي تحوّلت لاحقاً إلى أهم موقع للاجئين الأرمن، وطبع الطرفان آنذاك مشهد سهل البقاع بمشاهد خاصة ومميزة، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، قبل أن يصبح التجمّع الرئيسي للفلسطينيين في ثكنتي «ويفل» و«غورو» في مدينة بعلبكومخيم الجليل، أو مخيم الجنرال الفرنسي ويفل حسب تعريف الأمم المتحدة، أصغر مخيمات لبنان. وهو من أكثر التجمعات الفلسطينية بؤساً في البقاع بسبب اكتظاظه بالسكان. ويقول عضو اللجنة الشعبية في المخيم عماد الناجي، إن عدد المقيمين فيه حالياً لا يتجاوز أربعة آلاف نسمة (من أصل 7100 هم العدد الإجمالي)، وهم يتوزعون على مساحة 43 ألف متر مربع، و«يمنع علينا زيادة مساحات البناء حتى على قطعة أرض مجاورة تعود ملكيتها لمنظمة التحرير، وبالتالي فإن الوضع المأساوي للسكن، وحصارنا داخل سور، وتردّي الأوضاع الاقتصادية، كل هذه العوامل سجلت عندنا أعلى نسبة هجرة نحو الدانمارك والسويد والنروج وسويسرا وألمانيا ودول أوروبية أخرى، وأصبح المخيم فقط للأطفال وكبار السن».
    في المقابل، يعدّ مخيم الجليل أيضاً الأكثر هدوءاً واستقراراً. فالجميع هنا يؤكد أنه «لا خلافات سياسية أو أمنية تذكر»، ويعزو البعض من قادة محليين في منظمات فلسطينية الأسباب إلى «تراجع عدد سكان المخيم»، إضافة إلى «غياب الشباب الذين هم أكثر حراكاً في العمل السياسي». ويؤكد عدد منهم على «استقرار المخيم، رغم وجود أكثر من عشرة تنظيمات من داخل جسم منظمة التحرير وخارجه»، وبالتالي فإن جميع القوى السياسية في المخيم تكوّن اللجنة الشعبية التي تتولى الإدارة والاتصالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية».
    وأياً كانت الحقيقة، فالمتفق عليه أن الوجود الفلسطيني في البقاع جزء لا يتجزأ من النسيج اللبناني لما فيه من خصوصيات الترابط الاجتماعي، وإن غُيّب هذا الجانب تماماً عن التداول الإعلامي.
    ويرفض فلسطينيو البقاع الغوص أو التحدث في «الأوضاع» الأمنية في المخيّمات الأخرى خارج «منطقتهم». فالحياة السياسية شبه غائبة عن تجمّعاتهم البقاعية نتيجة عوامل عدة، أبرزها اندماجهم في المجتمع اللبناني بشكل واسع. وحوّل تراجع دور منظمة التحرير وتالياً فصائلها (اليسارية تحديداً)، اهتمامات أبناء المخيم نحو قضايا ثقافية و... البحث عن فرص عمل لمن لم ينجح في «الهجرة».
    يقول المشرف على المركز الثقافي الفلسطيني في سعدنايل (قضاء زحلة) وعضو اللجنة المركزية في الجبهة الديموقراطية عبد الله كامل، إن «الاهتمام بالعلم وبالشؤون الثقافية هو السمة الأبرز اليوم في تجمعات شعبنا في البقاع. فنسبة الأمية تكاد تكون صفراً (11% وفق الدراسة أعلاه)، وتعدّ نسبة حمَلة الشهادات الجامعية عالية جداً مقارنة مع تجمعاتنا الأخرى في بقية مناطق لبنان». ويوضح كامل أن عدد الأطباء الفلسطينيين في البقاع مرتفع جداً، وهنالك مجموعة كبيرة من المهندسين (118 مهندساً من مختلف الاختصاصات) ومحامون، وأساتذة جامعات (25 أستاذاً محاضراً اليوم في الجامعات الخاصة في البقاع)، وتعليم ثانوي ومتوسط، عدا اختصاصات أخرى ذات مستوى تعليمي عال.
    ويقسّم كامل مراحل الوجود الفلسطيني في البقاع إلى أربع بدأت منذ 1948 وحتى يومنا هذا. «في البداية لجأ بعض سكان المخيمين المستحدَثين في بعلبك إلى البحث عن عمل في مناطق أخرى في البقاع بعدما أدركوا أن العودة الى فلسطين أصبحت بعيدة، فانتشروا في قرى سعدنايل، وبر الياس وتعلبايا بعد أن أخلت الدولة اللاجئين من عنجر، ونقلت في عام 1963 أعداداً كبيرة منهم إلى مخيم الرشيدية في جنوب لبنان».
    المرحلة الثانية كانت مع بدء الحرب الأهلية اللبنانية، حيث «توسّع الانتشار الفلسطيني في البقاع بعدما هُجّر جزء كبير من سكان مخيمات تل الزعتر وجسر الباشا وضبية الى مخيم الجليل في بعلبك، وإلى سعدنايل وبر الياس، وتعلبايا، وتعنايل، وشتورا. وصار للفلسطينيين تجمعات خاصة بهم بعدما شيّدوا منازل واستقروا فيها نهائياً ولم يعد ممكناً اليوم تمييزهم عن إخوانهم اللبنانيين».
    أما المرحلة الثالثة التي شهدت التطوّر الديموغرافي الفلسطيني الكبير في البقاع، فجاءت خلال، وبعد الاجتياح الاسرائيلي للبنان صيف 1982 وما نجم عنه من نزوح كبير للاجئين من مخيّمات الجنوب وبيروت وتجمّع الدامور إضافة الى النازحين جراء ما يسمى «حرب المخيمات» بين أعوام 1985 ــــــ 1986 و1987. وإذا كانت المراحل الثلاث الأولى أسّست لوجود كثيف للفلسطينيين في البقاع، فإن المرحلة الأخيرة التي بدأت في منتصف عام 1991 جاءت لتفعل العكس. فبعد توقف «الاقتتال» في لبنان، شهد البقاع قدوم فلسطينيين إليه عملوا على المساهمة في «هجرة» أعداد كبيرة نحو أوروبا، وكان مخيم الجليل هو «مطار» الإقلاع نحوها، فهاجر في أقل من 5 سنوات نحو 25% من شباب المخيم.
    وعلى رغم تأكيد أكثر من مصدر فلسطيني في البقاع صعوبة الإحصاء الدقيق للفلسطينيين في المنطقة، يشير تقدير أولي أجرته منظمات أهلية إلى وجود نحو 18 ألف نسمة (احصاء منظمات أهلية) يتوزعون وفق الآتي: مخيم الجليل وما حوله (8100 نسمة)، البقاع الأوسط والغربي (7300 نسمة)، مدينة بعلبك (2000 نسمة).
    ويقول متابعون إن الإحصاءات بشأن الفئات العمرية «الصامدة» في البقاع تظهر مدى تراجع الوجود الفلسطيني. ويوضحون أنّ نحو 53,8 في المئة هم ما دون الـ15 عاماً وهم يمثلون الفئة العمرية الأكثر تواجداً في مخيم الجليل. ويقيم 35,8 في المئة في تجمعات سكنية في البقاع خارج المخيم. أما من هم في عمر الخامسة والستين وما فوق، فلا تتجاوز نسبتهم 2 في المئة داخل المخيّم، و1,8 في المئة خارجه. وتصل نسبة من تتراوح أعمارهم بين الأربعين والخامسة والستين إلى 44 في المئة داخل المخيم الجليل و62,4 في المئة خارجه.
    وتفيد دراسة أعدّها «المركز الثقافي الفلسطيني» في بلدة سعدنايل أخيراً، بأن عدد الأطفال الفلسطينيين في مخيم الجليل وخارجه يؤلفون نصف عدد السكان، ويوضح عبد الله كامل أن الهجرة الفلسطينية من البقاع إلى خارج لبنان في ازدياد مستمر، وهذا «يقلقنا كثيرا»!
    ويعزو الفلسطينيون في البقاع أسباب «هجرتهم» الكبيرة إلى «سوء» الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والمعيشية. يقول عبد الرحمن عوض، إن حرمان الفلسطينيين من الحقوق المدنية والاجتماعية بفعل قوانين وتشريعات العمل اللبنانية الرسمية غير المستندة إلى قوانين الجامعة العربية والمنظمات الدولية هو ما أدى إلى رفع نسبة الهجرة الى مستويات تهدد المجتمع الفلسطيني في البقاع عامة.




    تراجع الخدمات التربوية والصحّية ورغم هذا الوضع الذي يفرض رعاية خاصة، فإن أهالي المخيّم يشكون من تدنّي مستوى الخدمات المقدّمة لهم من جانب «الأونروا» و«منظمة التحرير الفلسطينية» وتراجعها، ولا سيما في القطاعين الصحي والتربوي.
    يوضح عبد الله كامل أن «الأونروا» تعاقدت مع مستشفى واحد في بعلبك على «تأمين 60 ليلة سريرية شهرياً فقط. أما في البقاع الاوسط فقد تعاقدت مع مستشفى الهلال الفلسطيني في بر الياس على تأمين 120 ليلة سريرية بقيمة 75 ألف ليرة لليلة الواحدة، وهو مبلغ زهيد إذ يضطر الفلسطيني إلى دفع فروق العلاج من حسابه الخاص، في وقت تعاني فيه عيادات الأونروا من قلة الدواء على أنواعه، إضافة إلى أن العمل في هذه العيادات يقتصر على أربع ساعات فقط». وأكد الاهالي عدم فاعلية المستشفيات المتعاقدة مع «الأونروا» من جهة، وارتفاع كلفة الطبابة وغياب الخدمات الطبية والأدوية، إضافة الى غياب الضمان الاجتماعي.
    أما بالنسبة للتعليم، فمن المعروف أن «الأونروا» توفرّه للفلسطينيين في مراحله الابتدائية والمتوسطة. وبسبب قلة المدارس، تعتمد مدارس الفلسطينيين في البقاع نظام الدفعتين الصباحية والمسائية بالتناوب. ففي بلدة تعلبايا توجد متوسطة الجرمق وثانويتها وابتدائية جفنة في مبنى واحد. وفي بر الياس أيضاً متوسطة وادي الحوارث وابتدائية الرامة، اما في مخيم الجليل فهنالك متوسطة الجرمق وابتدائية طبريا. ويوضح عدد من المعلمين أن الطلاب والتلامذة يساهمون في توفير القرطاسية والكتب من مالهم الخاص.