نقولا ناصيف
ألوف من صفحات التصريحات والمواقف الأميركية المؤيدة لحكومة الرئيس فؤاد السنيورة لكونها «منتخبة ديموقراطياً»، أطلقتها واشنطن في العامين الماضيين. وفي الأيام الأخيرة دخلت للمرة الأولى، منذ عام 2005، على خط تأكيد علني قولاً وفعلاً في دعم الجيش اللبناني والوقوف إلى جانبه، في الأيام السابقة، سلكت سلسلة إجراءات بدأت بإرسال شحنات ذخائر وأُرفقت البارحة بخطوة مفاجئة هي رفع الحظر الجوي عن سفر الطائرات الأميركية إلى لبنان. واستناداً إلى أوساط الدبلوماسية الأميركية في بيروت، فإن قرار الرئيس الأميركي جورج بوش، الذي كانت قد أعدّت له وزارة النقل، يشكّل استكمالاً لشحنات الأسلحة إلى الجيش، أضف المغزى السياسي الذي ينطوي عليه. وكان قرار الحظر قد اتخذ في عهد إدارة الرئيس رونالد ريغان عام 1985 أثر إطلاق وزير الخارجية جورج شولتز عبارته الشهيرة أن لبنان «طاعون» يقتضي الحجر عليه. وكان يُتوّج بذلك الخروج العسكري الأميركي والانكفاء الدبلوماسي عن لبنان في أعقاب تصاعد وتيرة أعمال خطف الرعايا الأجانب في لبنان أو قتلهم، وبينهم أميركيون، وإلغاء اتفاق 17 أيار قبل ذلك بعام، ونشوء توازن سياسي وعسكري جديد في لبنان أطلقت فيه يد سوريا في هذا البلد بلامبالاة أميركية إن لم يكن بموافقة.
لكن قرار أمس مثّل كذلك تطوراً في الموقف الأميركي من تزويد الجيش مساعدات عسكرية، وأخصها الذخائر التي يحتاج إليها في معارك مخيم نهر البارد مع «فتح الإسلام». بحيث يتيح القرار تخفيف اعتماد الإدارة الأميركية على طائرات عربية، من قطر والإمارات العربية المتحدة، لتحميلها المساعدات العسكرية الأميركية إلى الجيش اللبناني من القواعد العسكرية الأميركية فيها، وإنما أيضاً إرسال هذه المساعدات في طائرات عسكرية ومدنية أميركية بصورة عاجلة إلى مطار بيروت تكريساً لدعم الجيش. وهو مغزى ما أشار إليه القرار عندما برّر أسباب رفع الحظر بأسباب إنسانية وغير إنسانية، وعندما تحدّث عن إهداف أخرى للقرار. وعنى بها المساعدة العسكرية. وفي واقع الحال، في أقل من أسبوع، تجاوز عدد الطائرات العسكرية التي حملت شحنات عسكرية إلى الجيش تسعاً.
على أن الأهمية العسكرية لقرار بوش تحتمل بعداً سياسياً، هو تأكيد الأميركيين جدّية تعاطيهم مع لبنان المستقل، ورفع قيود سابقة كانت على علاقة بالوجود السياسي والعسكري السوري في لبنان.
في موازاة ذلك أبرزت أوساط الدبلوماسية الأميركية في بيروت عناصر موقفها من أحداث مخيم نهر البارد منذ 20 أيار الفائت، وأدرجتها في الآتي:
1 ـــــ إشادة رفيعة بعزم الجيش اللبناني على مواجهة هذا النوع من الترهيب والتهديد الذي تمثله «فتح الإسلام». إلا أن أوساط الدبلوماسية الأميركية ترى أن أحداث الشمال ليست ضد الفلسطينيين، ولا هي ضد اللبنانيين، بل ضد فريق من الراديكاليين الذين يشبه تنظيمهم «القاعدة»، ويهددون الفلسطينيين واللبنانيين على السواء. وما لا تجهر به، في معرض هذه الإشادة، هو اهتمامها بأداء الجيش في المواجهات العسكرية العنيفة، وخصوصاً قوات النخبة المقاتلة في صفوفه التي تلقّى ضباطها تدريباً عالياً في الولايات المتحدة خلال العامين المنصرمين، ترجمة لإعادة التعاون العسكري على مستوى التدريب والتأهيل والتسليح الذي طبع سنوات طويلة من علاقات البلدين، وحجبته وقللت فاعليته الحقبة السورية في لبنان. ويدخل في سياق التعاون العائد تبادل المعلومات الأمنية وفق مبدأ التقت عليه حكومة السنيورة وواشنطن، هو أن الأرهاب الذي يمثله هذا التنظيم السلفي وسواه من التيارات المتشددة يتهدّد البلدين معاً.
2 ـــــ لم تتردّد واشنطن في استجابة سريعة لطلب حكومة السنيورة تزويد الجيش ذخائر افتقر إليها في المعارك الأخيرة. ومع أن ثمة لوائح بحاجات الجيش وقوى الأمن الداخلي إلى السلاح قد أرسلتها حكومة السنيورة في أوقات سابقة، واحتاج درسها وتقرير ما يقتضي استجابته إلى بعض الوقت ـــــ ولم يكن قد انتهى درسها حتى الأيام الأخيرة ـــــ سارعت الإدارة الأميركية إلى تلبيتها تحت شعار ـــــ تقول الدبلوماسية الأميركية في بيروت ـــــ أن جوهر السيادة في أي بلد هو قدرة جيشه على حماية الشعب والسيادة، وأن يبرهن عن قدراته على تحقيق هذا الهدف.
3 ـــــ تعتقد أوساط الدبلوماسية الأميركية، في معرض تقويمها سير العمليات العسكرية في الشمال، أن هذه ستستمر، وأن انتهاءها يتطلّب وقتاً نظراً إلى واقع المواجهات التي يحتاج حسمها إلى وقت، لكونها تتداخل في الأحياء والمباني، ما يفرض على أي تقدّم يحرزه الجيش أن يتم ببطء كي يحصل بنجاح وثبات: لن تستمر المعركة سنة، لكنها لن تنتهي في يومين أو ثلاثة أو أسبوع. إلا أن الجيش أكد التصميم على تصفية «فتح الإسلام» نهائياً، على ما تلمس الدبلوماسية الأميركية التي بدت معنية عن قرب بوقائع الاشتباكات وتتبعها ومراقبة نتائجها وآثارها على علاقة الشعب اللبناني بالجيش، وكذلك صمود الحكومة المركزية.
4 ـــــ لم تتردد أوساط الدبلوماسية الأميركية في بيروت في طرح علامة استفهام حيال موقف حزب الله من أحداث مخيم نهر البارد في ضوء المواقف الأخيرة التي أطلقها، وخصوصاً أمينه العام السيد حسن نصرالله، متحفظاً عن الحسم العسكري ودخول مخيم نهر البارد لضرب «فتح الإسلام». لكنها وجدت رابطاً بين الحزب و«فتح الإسلام»، هو أنهما مجموعتان مسلحتان ليستا تحت سلطة الحكومة اللبنانية. ومن غير أن تقرن تساؤلها بموقف مسبق من حزب الله حيال التطورات الأخيرة، تقول إنها تجهل إذا ما كانت ثمة علاقة بين الطرفين أو تعاون، أو أن الحزب يملك معلومات كافية عن «فتح الإسلام»، إلا أن وجود منظمات مسلحة خارج سيطرة الحكومة المركزية اللبنانية يمثل خطراً حقيقياً على السيادة والأمن. وهي أخطار وتهديدات خبر الأميركيون مثيلها. وفي السياق نفسه تقع «فتح الإسلام»، التي، بحسب أوساط الدبلوماسية الأميركية في بيروت، لديها مخطط خطير للغاية.
في المقابل لا ترى سبباً لتفسير موقف حزب الله المتحفظ عن هجوم الجيش على التنظيم السلفي في مخيم نهر البارد، سوى أن نجاحه سيبرهن أنه قادر على حماية السيادة اللبنانية، الأمر الذي يلغي ــــــ تقول أوساط الدبلوماسية الأميركية ـ أي دور أمني وعسكري بديل يضطلع به حزب الله حيال إسرائيل خصوصاً، انطلاقاً من تبريره لتشبثه بسلاحه، وهو أنه وحده الجهة اللبنانية القادرة على حماية السيادة الوطنية وحماية لبنان من الاعتداءات.
5 ـــــ تتفادى أوساط الدبلوماسية الأميركية اتهام سوريا بمسؤولية ما حيال ما يجري في شمال لبنان، من دون براهين ملموسة، لكنها تختصر الموقف بما يفضي إلى الإجابة نفسها، وهو أن واشنطن من خلال مراقبتها الدؤوبة ومتابعتها الوضع اللبناني في السنتين المنصرمتين، تلاحظ أن دمشق لم تضطلع يوماً بدور إيجابي فيه، بل عمدت إلى زعزعة استقراره