جان عزيز
هل من حدود مبدئية أو أخلاقية أو وطنية أو إنسانية، يمكن أن ترسمها «الحريرية السياسية» لنهجها في السلطة؟ وماذا لو بلغت البهلوانية الحاصلة في أداء هذا النهج، لا حدّ التناقض المطلق مع الذات فحسب، بل أيضاً حدّ تهديد مسلّمات الوطن وثوابت الكيان؟
هذا السؤال تطرحه أوساط المعارضة المسيحية، على إيقاع حدثين لافتين في الشكل والمضمون والدلالات، وهما التقاطع التحالفي بين السلطة الحريرية من جهة، وبين مواقف كل من الشيخ صبحي الطفيلي و«عصبة الأنصار» من جهة أخرى.
فعلى المستوى الأول تلاحظ أوساط المعارضة المسيحية أن ثمة حملة شرسة شنّها الحريريون، ومسيحيوهم في شكل خاص، على التفاهم الذي وقّع بين ميشال عون وحسن نصر الله. علماً أن تلك الورقة مثّلت أول وثيقة يبرمها «حزب الله» ويؤكد بموجبها الحدود اللبنانية البحتة لخطابه وسلاحه وعمله ونضاله. فيما «الحريرية السياسية» تلتقي الآن مع الطفيلي الذي يرفض تفاهمي تموز 1993 ونيسان 1996 مع إسرائيل، ويرى أن ذلك «أسبغ حماية على المستوطنات الإسرائيلية». وهو من اختلف مع قيادة «حزب الله» الحالية لأنها حصرت مقاومتها في لبنان، بينما هو لا يرى أي «فرق بين الإسرائيلي في مزارع شبعا والإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة».
وهو يؤكد أن «الخيام مثل عكا وحيفا» وأن «المقاومة هي لتحرير الأراضي العربية المحتلة». وسماع موقف الطفيلي المتناغم مع السلطة الحريرية يثير الاستهجان من أي منطق. فهو ضد المحكمة الدولية، ويفضّل عدم إنشائها كلياً على صدورها عبر مجلس الأمن. كما أنه يرى أن القيادة الإيرانية الحالية متخاذلة، حتى إنها تحوّلت «الى منسق للشؤون الأميركية في المنطقة». الحليف الجديد للسلطة الحريرية هو من يتباهى بأنه «المسؤول عن طرد الأميركان من لبنان». وهو يرى أن «المقاومة المسلحة شأنها محاولة تحرير فلسطين» وهي «مقاومة إسلامية، وأوسع من عربية، وشعارها تحرير القدس ويجب أن تستمر».
حتى إن الحليف الحريري الجديد يجاهر بضرورة عدم «مناكفة السوريين». وفيما لا ينسى الطفيلي أن يصف حكومات رفيق الحريري بأنها من «سارقي المال العام وناهبي ثروات الدولة والمعتدين على الشعب»، تظل ذروة المفارقة في التقاطع الحريري ــ الطفيلي المستجدّ، أن الأخير يعلن في وسائل الإعلام وجهراً، أن أسامة بن لادن «ليست في أفكاره شائبة وهي سليمة ومنطلقاته إسلامية». لا بل إن الحليف الحريري الجدي] كان من أوضح الذين برّروا الأعمال الإرهابية لتنظيم «القاعدة»، على أساس أنه «اذا هاجم الكفار ديار المسلمين وتمترسوا بالأطفال والنساء (...) فيجب ضرب العدو حتى لو قتل أطفال ونساء المسلمين> هذا فقه...»
يبقى دفاع الحليف الحريري الجديد عن الجيش، وهو مصدر أكثر من استهجان المعارضة المسيحية، خصوصاً أن الطفيلي مُحال أمام المجلس العدلي بتهمة الاعتداء على الجيش والتسبّب باستشهاد اثنين من عناصره وجرح آخرين، وهو من أعلن في الإعلام أن الجيش اللبناني «كان ينزل الى الشوارع ويطلق النار على المارة»، لمنعه هو من المشاركة في مناسبة اجتماعية...
أما المستوى الآخر الذي لا يقل خطورة، فهو الاتفاق الواقعي بين السلطة الحريرية وبين «عصبة الأنصار» على دور أمني للأخيرة في مخيم عين الحلوة، مع ما لهذا الاتفاق من خلفيات، لجهة هوية هذه الجماعة، ومن دلالات لاحقة، حيال «تشريع» السلاح الأصولي الفلسطيني الجديد.
فلجهة الخلفيات ترى أوساط المعارضة المسيحية أنه إذا كان تقاطع الحريري ــ الطفيلي قد وضع هذه السلطة على تماس السكوت عن تنظيم «القاعدة»، فإن التقاطع مع «عصبة الأنصار» قد جعلها في صلب الشبكة اللبنانية لهذا التنظيم.
ذلك أن جميع أدبيات الإعلام الحريري نفسه، قبل عام 2005 طبعاً، كانت تشير الى هذا الترابط بين «العصبة» و«القاعدة». وأدبيات هذا الإعلام أكدت أن جماعة «أبو محجن» هذه مرتبطة بالتنظيمات الإسلامية المسلحة في مصر والجزائر، وأعضاؤها يدرسون في حلقاتهم مطبوعات «جماعة الجهاد» في مصر وكتاب «جند الله» لسعيد حوى وسواها.
حتى إن هذا الإعلام كان ينظر الى القرارات الظنية الصادرة عن القضاء العسكري في حق الموقوفين في «العصبة»، وغيرها من التنظيمات الأصولية السُّنية، على أنها «كشف عن وقائع خطيرة» تتعلق بارتباطهم بأيمن الظواهري مباشرة. وما كان ينسبه الإعلام الحريري في حقبة الوصاية الى عمل القضاء، عاد بعد اغتيال رفيق الحريري وجلاء الجيش السوري ليؤكد، وينسبه الى نفسه. فنقل عن مصادره العراقية في 10 آب 2005 أن أمير «عصبة الأنصار»، أبو محجن، دخل العراق متسللاً وانضم الى أبو مصعب الزرقاوي.
فضلاً عن سلسلة الملفات الجنائية والإرهابية التي يتّهم بارتكابها عناصر «الانضباط الفلسطيني» المستحدث. بدءاً باغتيال الشيخ نزار الحلبي وصولاً الى الاعتداء على الجيش مع «أبو عبيدة»، مروراً طبعاً باغتيال القضاة الأربعة في صيدا سنة 99. علماً أن الإعلام الحريري كان قد لاحظ قبل عامين «ـن الانسحاب السوري من لبنان واغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ساهما في تعزيز تحركات التيارات السلفية التي تسعى إلى تكثيف نشاطاتها وتحركاتها في المرحلة المقبلة، وهي تلقى دعماً مالياً ومعنوياً من العديد من المؤسسات الإسلامية في الكويت والسعودية».
وهو ما يدفع بأوساط المعارضة المسيحية الى السؤال: هل تقدم السلطة القائمة على إحياء نوع ملتبس ومكتوب من اتفاق القاهرة، بعد 20 عاماً على إلغاء الأخير قانونياً، وهل يكون الاتفاق الجديد مع أصوليي الفلسطينيين السُّنة، تماشياً مع تطلعات السلطة الراهنة، بعدما كان الاتفاق الأول مع «يسارييهم»، انسجاماً مع طروحات تلك الحقبة؟