مهى زراقط
لا يعرف مخيّم البداوي نفسه هذه الأيام. هو الذي يعدّ أحد أفضل وأجمل المخيّمات الـ12 للاجئين الفلسطينين في لبنان، رغم كلّ مشاكله، تحوّل فجأة إلى قِبلة الإعلام والسياسة منذ الأحداث التي اندلعت في مخيّم نهر البارد

يتقدّم طفل من أبو طارق ويضع في يده 250 ليرة قائلاً: «بدي اشتري».
يضم الحاج القطعة المعدنية إلى زميلاتها في جيبه الذي يصدر أصوات ارتطام النقود كلّما تحرّك ويقول للطفل: «اشترِ وتعالَ أرني ما اشتريت».
يتكرّر هذا المشهد سبع مرّات خلال ساعة، ودائماً يكون المبلغ الذي يحمله الأطفال إلى الدكان الصغير في مخيّم البدّاوي 250 ليرة يشترون فيها «بسكوتة albella» أو «بونجيسة».
هذه المرة الأولى منذ عام 1955، تاريخ تأسيس المخيّم، التي يشهد فيها البداوي أوضاعاً مماثلة. ليس السبب الازدحام الخانق وحسب، بل الظروف الأمنية والسياسية التي جعلت منه فجأة قبلة لمختلف وسائل الإعلام، وهو الذي قلّما حظي بأي تغطية إعلامية.
وكما في كلّ المخيّمات الفلسطينية، لا يجد الصحافي صعوبة في الحديث مع الأهالي الذين لا يبخلون عادة بالكلام. لكنّ الفارق هذه المرّة أن الذين رغبوا من الفلسطينيين بالكلام، كانوا يحدّدون هم وجهة الحديث. فلم تُغرِهم الإجابة على سؤال عن وضع مخيّمهم أو نشأته لأنهم راغبون في تمرير رسالة تتهم طرفاً واحداً بالمسؤولية عمّا يحصل من دون تسميته، «لكن الأيام ستكشفهم، وسيعرف الجميع أن من حفر حفرة لأخيه وقع فيها».

مؤامرة أميركية

«من شعب مناضل كان يطالب بالعودة إلى فلسطين 48، إلى شعب يقاتل من أجل العودة إلى أراضي الـ 67... صرنا شعباً يشحذ العودة إلى نهر البارد».
يقول رجل خمسيني هذه العبارة بصوت مرتفع وهو يقترب من مجموعة من الصحافيين بقصد الحديث معهم: «سأخبركم ما لم يخبركم إياه أحد» يؤكد. تستمع إليه بعض الوقت فيحكي عن بدايات دخول «فتح الإسلام» إلى مبنى «صامد» في «البارد» وكيف تكاثروا فجأة «تحقيقاً للمؤامرة الأميركية علينا». هذه المؤامرة تورّط فيها من يدعون الحرص على الفلسطينيين، ملمّحاً إلى طرفين سياسيين: فلسطيني ولبناني لا يسمّيهما «لم يغضّا الطرف عن «فتح الإسلام» فحسب، بل كانا يتعاونان معهما، إلى أن قرّر الطرف اللبناني فجأة التخلّص منهم». هذا الحديث يمكن أن يسمعه كلّ من يتجوّل في المخيّم من دون أن يطرح أي سؤال على أحد لأنه يشكّل الشغل الشاغل للأهالي الذين التزموا حدود المخيّم ولم يعودوا يخرجون منه إلا للضرورة.
بعيداً عن الشارع الرئيسي، وفي أزقة المخيّم، يختلف الوضع قليلاً. الحاج أبو عادل صاحب أحد محالّ السمانة، يرفض الكلام مع الصحافة «لأنه لا علاقة لنا بما يحصل». لكن أحد الموجودين لديه في الدكّان يشجعه «فليس لدينا ما نخشى منه» علماً بأنّ الأخير، منذ اندلاع أحداث الشمال، لا يخرج من المخيّم إلى عمله «لأني لا أرغب في أن تتعرّض لي القوى الأمنية وتذلّني قبل أن تكتشف براءتي، قرّرت أن أبتعد عن الشرّ وأغني له».
يوضح لدى الاستفسار: «نحن اليوم مع الجيش ونتفهم الجرح الذي أصابه، لكن هذا لا يبرّر بأي شكل من الأشكال المعاملة التي يعاملون بها من يشتبهون بشكله أو اسمه من الفلسطينيين. لا يرضيني أن يضعوا كيساً في رأسي أو يوثقوا يديّ، وكي لا أتعرّض لموقف مماثل فضّلت عدم العمل والانتظار إلى أن تعود الأمور إلى ما كانت عليه».
الرجل الذي يرفض الكشف عن اسمه، لكي يبقى كلامه صريحاً، يؤكد أن عدداً ممن يعرفهم تعرّضوا لممارسات مهينة من القوى الأمنية «وتبيّنت براءتهم لاحقاً، صدّقي لو أنه كان هناك 1% من التعاطف الفلسطيني مع «فتح الإسلام» لكان الجيش اللبناني في وضع لا يُحسد عليه اليوم».

غياب الحقوق المدنية

تأتي هذه الإشارة إلى التضامن الفلسطيني مع الجيش اللبناني غريبة أو دخيلة على حديث الرجل الذي روى مع شابَّين انضما إلى الحوار «كيف وقف لبنانيون في اليومين الأوّلين يصفقون للجيش اللبناني وهو يقصف المخيّم قبل إخلائه من أي مدني».
وينطلق الشبان الثلاثة من هذه الحادثة ليعرضوا معاناة أبناء المخيّم مع الدولة اللبنانية ومعاملتها المجحفة لهم: «لو كانت الدولة اللبنانية ذكية قليلاً، لعرفت كم ننفعها. في هذه الأحداث فقط دخل إلى لبنان اليوم ملايين الدولارات من المغتربين الذين أرسلو حوالات لمساعدة أهاليهم».
يرى الفلسطينيون الثلاثة، وأحدهم موظف في «الأونروا»، أن اللاجئين الفلسطينيين يتعرّضون للكثير من الظلم والقهر «نحن محرومون فرصة العمل، وحقنا بالتملّك، ورغم ذلك نوفّر يداً عاملة من دون أن نكبّد رب العمل الضمان والتأمين. ليس الدولة فقط، حتى الأوقاف الإسلامية لا تعاملنا إنسانياً، توفي إمام الجامع عندنا بعد 35 عاماً قضاها في خدمة الأوقاف، فكانت مكافأته وقف الراتب عن عائلته التي تعاني أوضاعاً صحية صعبة».
ورغم هذا الواقع السيئ، الذي لا يختصر كلّ المعاناة التي يعيشها الفلسطينيون في لبنان «نحن متضامنون قلباً وقالباً مع الجيش، ونحن في البدّاوي أوّل من طرد عناصر «فتح الإسلام» بعدما اكتشفنا وجودهم بيننا».
ويحاول أحدهم أن يشرح كيف نجحوا في البقاء في مخيّم نهر البارد: «تغلغلوا هناك أكثر لأنهم وجدوا من يدعمهم، إضافة إلى أنهم نجحوا في كسب ودّ بعض الفلسطينيين بداية من خلال لجوئهم إلى الدين كأن ينهروا طفلاً تحدّث مع والده بطريقة سيئة أو يدفعوا ألف ليرة لمن يقرأ سورة الفاتحة بشكل صحيح... مع الوقت شعر أبناء المخيّم فجأة بأن العدد صار كبيراً».
هو الحديث ذاته يتكرّر على ألسنة الجميع. وحين يتكرّر السؤال عن بدايات الحياة في المخيّم تأتي الإجابة واحدة: «اذهبي إلى الميعاري وهو يخبرك».

بداية المخيّم أو رحلة الهجرة؟

يمسك الحاج أبو مصطفى الميعاري فخذيه وهو ينتقل إلى غرفة النوم ليأتي بمنشفة لزوجته التي انتهت لتوّها من غسل فناجين القهوة فتشكره بابتسامة تزيد التجاعيد حول عينيها الملوّنتين. «الآن وقد وصلنا إلى هذا العمر، على كلّ منّا أن يكون عوناً لرفيقه» يقول الرجل الذي تجاوز عمره الخامسة والثمانين، قبل أن ينتقل إلى غرفة أخرى «فيها صور الشباب».
في الصالون المتواضع، الكائن في شقة تحت الأرض في مخيّم البداوي اصطفت صور خمسة شبان على الحائط. «هذه صورة الشهيد علي» يقول أبو مصطفى ويغصّ بدموعه، «وهذه صورة الكبير، مصطفى» يبلع ريقه لكنه لا ينجح في إخفاء اختناق صوته وهو يتابع: «لم أره منذ سبع سنوات، يعمل في ليبيا».
أبو مصطفى رجل حنون، يقول عن نفسه، وكذلك يقول عنه أبناء البداوي الذين رشّحوه لرواية تاريخ ولادة المخيّم. يسرّ الرجل بأن يسمع هذا الكلام ويتشجّع ليروي رحلة تهجيره من بلدته فرّادة في الجليل الأعلى (قضاء صفد) قبل 59 عاماً، كان عمره آنذاك 28 عاماً ولديه خمسة أطفال. تشعر خلال روايته لها بأنه لا يتذكر شيئاً في حياته أكثر من تلك الرحلة التي قطعها مرتين، الأولى هروباً من العصابات الصهيونية، والثانية بحثاً عن ابنه مصطفى الذي كان نائماً عند جدَّيه تلك الليلة.
«لا أتذكر التواريخ، لكني لا أنسى شيئاً من الوقائع» يقول قبل أن يبدأ السرد مشيراً عند كلّ محطة إلى صورة من الصور المحيطة به، أو التي يطلب من زوجته أن تأتي بها من الداخل.
عندما غادر أهالي بلدة الفرّادة بلدتهم، أضاع أبو مصطفى أفراد عائلته وأطفاله، لكنه راح يهتم بأطفال الآخرين و«كنت واثقاً بأنه كما سخّرني الله لخدمة هؤلاء، سيسخّر الله من يخدم لي أطفالي» الذين عاد والتقاهم لاحقاً، لكن من دون مصطفى «الذي أخّره الله هناك ليساعد جدّيه».
تنقّل أبو مصطفى مع مئات الفلسطينيين في قرى جنوبية عدّة قبل أن يصلوا إلى مدينة صور «نمنا ليلة واحدة في الرشيدية، ونقلتنا الدولة في اليوم التالي إلى الشمال، ذهبنا في القطار الذي تعطّل وبقينا 12 يوماً إلى أن وصلنا».
لم يقم أبو مصطفى مباشرة في البدّاوي، بل استأجر غرفة في الشمال بخمس ليرات، إلى أن سمع أنهم يبنون مخيّماً للفلسطينيين في البداوي فانتقل إليه، «كان مدير المخيّم من طبريا، قلت له أريد بيتاً مثل كل العالم فأعطاني هذا البيت الذي لا أزال أعيش فيه إلى اليوم».
بعد إيجاد البيت والاستقرار قرر العودة إلى فلسطين ليأتي بابنه «عدت في رحلة طويـــــــــلة، ووصلت ليلاً إلى بيتنا، طرقت على الشباك بهدوء فسمعت أبي يقول لأمي: «هذا أبو مصطفى، قومي وافتحي له». أجابته أنه يحلم، لكنه أصرّ عليها أن تفتح. كان مصطفى نائماً، أوقظوه وطلبوا منه أن يذهب ليخبر عائلة جدّه لأمه». هنا يبتسم أبو مصطفى وهو يستعيد نباهة طفله ابن السنوات السبع آنذاك: «سألته ماذا ستقول لهم فأجابني عندما أطرق الباب سأقول لهم إني أتيت لأنام عندكم، وعـــــــندما أدخل سأهمس لجدي أنك هنا».
إلى هنا، وتنتهي رواية «أبو مصطفى». لا تنجح الأسئلة عن تطوّر الحياة في المخيّم إلى استدعاء أي قصة إلى ذاكرته سوى استشهاد ابنه علي ووفاة ابنته. وبعد محاولات لاستدعاء قصص إضافية يروي أنه زار شقيقته في فلسطين قبل أعوام «تقدمت بطلب إلى جنيف وأتت الموافقة بعد ثلاثة أعوام، الحمد للّه، صلّيت في المسجد الأقصى وهذا ما كنت أحلم به».




الأساتذة أشدّ قسوة «لأن يوم الدراسة بأربعة دولارات!»
يسمّون مجيئهم إلى المدرسة «مخاطرة» لأنهم قد يتعرّضون للتّوقيف من الجيش اللبناني أو القوى الأمنية «ونحن لم نلتحق بالباص الذي خصّصته لنا «الأونروا» لأنّ المدير قال لنا أمس إنه لن يسمح لنا بدخول الصف بسبب مشاغباتنا، فتغيّبنا، لكن أحد الأساتذة عاد وقال إنه لن يطردنا»، وهذا ما لم يحصل، إذ قضى الفتيان نهارهم خارج الصف لوصولهم متأخرين، منتظرين انتهاء بقية زملائهم قبل أن يعيدهم الباص عند الظهر، موعد التحاق تلامذة مخيّم نهر البارد بالدوام الثاني.
ـــــ ولماذا لم تعودوا وحدكم كما أتيتم؟
الإجابة تأتي من الجميع دفعة واحدة: «هجم علينا اللبنانيون وضربونا». وبعد محاولة فهم ما حصل من خلال الطلب من أكثر من فتى رواية ما حصل نفهم: «كنا نسير ونتحدّث فسمعنا شبان لبنانيون وعرفوا أننا فلسطينيون من لهجتنا، وقام أحدهم بشتمنا بأن قال لنا «مخّ» (يشرحون أن هذه شتيمة توجّه للنساء) فتشاجروا معهم ولم تفضّ المشكلة إلا بعد تدخّل الرجال الذين وقفوا حائلاً بين الطرفين «لذلك فضّلنا انتظار الباص».
ومنذ انتقل هؤلاء الفتيان إلى خارج المخيّم وهم يتعرّضون للمشاكل، محملين المسؤولية لمديرهم وأساتذتهم الذين صاروا فجأة أكثر قسوة «لا يطيقون سماع أدنى صوت، ويهددوننا بعدم دفع المال لنا إذا شاغبنا...».
ـــــ المال؟
«نعم، قرّرت «الأونروا» أن تدفع لكل تلميذ مبلغ 4 دولارات في النهار، لذلك صار الأساتذة «يتمقطعون فينا، ولا يترددون في ضربنا وإهانتنا». لا ينكر الفتيان أنهم مشاغبون، وهذا ما يبدو عليهم أصلاً لكن لسلوكهم هذا أسباب منها، مثلاً «هناك، لم يكن ضرب الأستاذ لنا مبرّحاً، هنا يضرب بشدّة أكثر»، علماً بأن الأستاذ هو نفسه لم يتغيّر.
يذكر أن «الأونروا» باشرت منذ يوم السبت الفائت نقل طلاب الشهادات الرسمية (بريفيه وثانوي) من مخيمي البداوي ونهر البارد إلى المدارس التابعة لها في مدينة طرابلس، وقد خصصت ثمانية باصات للغاية.