أنسي الحاج
شمسُ ظهيرةٍ تتذوّق مغيبها


يُفلت الشيطان من العقاب ولا يُفلت الشاعر من براءته. ولو ظنّ أنه هو أيضاً شيطان. خطايا الشاعر، وعلى الأكثر، أخطاء لغويّة.
لماذا يريد شوقي بزيع (صدر له أخيراً ديوانا «لا شيء من كل هذا» و«صراخ الأشجار») أن يرمي على قبر أحلامه باقة من الندم؟ بسبب ذلك الجوع. ذلك الفراغ الذي نريد للحبّ أن يملأه فإذا به يزيده فراغاً بعد أن يُشبعه صَلْباً. لا يعود الشاعر من موته إلّا لأنّه البريء الذي يَنسى أنه مات.

يُتقن شوقي بزيع اصطياد المعنى الهارب. يأخذه بهدوء يوحي أنه كان دائماً هنا. حيث يرمي صورته تَنطق. لكنها ما كانت لتكون أكثر من براعة لولا دفء العاطفة الغامرة التي تكتنفها. الشاعر هو من القلّة التي ما زالت الكتابة عندها مرادفة للشغف.
والانطباع مَصْدَر قويّ لديه. لا للصورة والاستعارة فحسب بل لبناء الموقف. انطباع خصب يَمنح العاطفيّة صدقيّة ذهنيّة إلى جانب الوهج الشعوري. حتى الرغبة لا تستسلم لاندفاعتها بدون ألوان الانطباع الذي يفتح الدرب سريعاً إلى الخيال. وإذا طالعنا شعره منذ البداية في مجلّدَي مؤلفاته الكاملة وصولاً إلى ديوانيه الأخيرين نسمع الصوت كيف كان يصرخ ثم صار يَدْخل ثم يهمس، وكيف كلّما خَفّتْ منبريّته ازداد بريقه، كما يشتدّ فَوحُ الروح كلّما غَسَلَتْها النار.
في مقالة له عن ديوان «لا شيء من كلّ هذا» يتحدّث حسين بن حمزة (وهو شاعر آخر من سلالة الشعراء ــــــ النقّاد الذين يحتاجهم الشعر حاجته إلى مبدعيه) عن النزعة الرثائيّة عند بزيع. ملاحظة مهمّة تنسحب على كثيرين. ومن الروائيين كذلك. مهما تكثّف الحزن في قصيدته، تحتفظ هذه بترياق سرّي ضد الاختناق. إنه حيناً الخلاص بالقصيدة نفسها، وحيناً رجاءٌ ما، قد لا يُعرّف عن نفسه، رجاء أشبه بدهشة العينين في الصباح، وأقرب إلى قوّة الأشياء منه إلى البرهان.
الشاعر الألماني ريلكه هو بين أكبر شعراء المرثيّة. أثناء معاناته أزمة مع الإلهام سمع وهو يقوم بنزهة فوق الصخور صوتاً في الرياح يملي عليه العبارة الآتية: «تُرى، مَن ذا، إنْ صرختُ، سيسمعني بين الملائكة؟». وهكذا جاءه أول بيت في مرثيّته الأولى.
هنا وهناك الشعور واحد بالمحدوديّة، بالعجز عن الكينونة وعن التغيير، بالهشاشة. وإذا كان ريلكه يحاول التعويض بفكرة «الملائكة» (لا علاقة لها بالمفهوم المسيحي) فإن شوقي بزيع يلجأ إلى صلابة الأشجار. وكلاهما يعتصم بالحبّ، السحر الأقدر على إعتاق الإنسان من حدوده. فعناق العشاق «وعدٌ بالأبديّة».
أعطت المراثي صفحات بديعة في التاريخ، من أشهرها المراثي المنسوبة إلى إرميا في التوراة. لكنّنا هنا ناجون من ذلك الجوّ المكفهرّ، ولا يصيبنا من الرثاء إلّا حكمته وحنانه. دموع التذكار ولوعة الغربة، يُطرّيهما شَغَف طفولي يطير كالعصفور الطروب فوق جروحه. وكما تقول زهيدة درويش جبور في المقدمة: «الشاعر لم يزل يحمل في داخله براءة القادم إلى بيروت من أرض الجنوب التي تُطهّره من كلّ رجس وتمدّ إليه حَبْلها السرّي فتغذّي روحه وتربطه بأسلافه البسطاء الذين يَسْتلهم منهم الحكمة».
يقول في قصيدة «صراخ الأشجار»: «لو لم يكن في البدءِ/ إلاّ عشبةٌ مجهولةُ الأبوينِ/ تَسْبح في مياهٍ ضحلةٍ/ لحسبتُها أمّي...». حتى ليبدو، وليس في كتاب الأشجار وحده، حتى ليبدو الشجر من أهله. يوحي لك أن مَن لا يشعر بدفء الشجر لا يشعر كثيراً بشيء.
«كم يُشبه الزيتونُ قاطفيه (...)/ هو الذي يكاد زيتُه يُضيء/ مع هبوب كلِّ ريحْ/ بلاغة السؤالِ/ عن حقيقةِ الوجود.».
أشجاره لم تَصْرخ بقَدْر ما صلّتْ وناجتْ. كلّ ما في الطبيعة قد ينطوي على تهديد قاتل إلاّ الأشجار، الشاهدة الصديقة الباقية منذ عهد الجنّة. وعَبْر الأشجار، يتجلّى ارتباط الشاعر بالأرض تجلّياً عابقاً بثباتها وتبرّمها بثباتها. وكما يتّخذ الجنوب عنده شكل المرأة أحياناً، تتقمّص الأرض روح الأنثى وتتماهى المرأة مع الأرض. بل تتماهى مع القصيدة. ومن أكثر قصائد «لا شيء من كلّ هذا» خَطْفاً وإدهاشاً قصيدة «حنين» حيث المرأة هي القصيدة والقصيدة هي المرأة.

الشعر والنثر عند شوقي بزيع قصيدتان بإيقاعات مختلفة. ولا تقلّ متعة قراءته ناثراً عن متعة قراءته وازناً. ولعلّه في نثره أكثر حسيّة وجسديّة، ربّما لأن المطاردة التعبيرية في النثر، وخاصة في المقال، هي حركة في حقل البرهان أكثر ممّا هي تقطير على إيقاع. يقول الفنّان الصديق إميل منعم عن لغة بزيع إنها «تَكْرج كَرْجاً أمامه». صحيح حتّى في حديثه الشفهيّ. ويمتدّ هذا إلى نواحيه الفكاهيّة والساخرة، وهي من مواهبه غير المنشورة بعد. هذه الطَبْعيّة هي التي تُطيّب بلاغته وتجعل لحم كلامه ورديّاً حيّاً. لقد غدت التفعيلة عنده مُسارّة.
في شعره أصواتُ نوافذ تُفْتَح، والجوّ ألوان الشَغَف. يتصاحب الغناء والظلال، ويطيب للحواس أن تتملّى من «طباع الجذور». ويغدو الجسد رفيق طيفه. يَحْفر الإيقاعُ وراء جدار المعنى، لا يهاب اللقاء بما وراءه، ولو كان الهاوية. ويظلّ كلّ شيء، مهما «تواجهت العاصفة مع نفسها»، يَنْبع ويؤوب إلى الطيبة، طيبة هي هنا صنو التجربة شكلاً ومضموناً، طيبة هي بمثابة الأب ــــــ الأُم للعالم.
كثيرة هي العبارات «الحدوديّة» عند شوقي بزيع. حدود الروح. مثل: «أنتِ ما ترغب الروحُ في قوله/ قبل أن تهجر الأرضَ». أو (من قصيدة عن صوت فيروز): «صوتُها العشبُ الذي يوطأُ بالأرواحِ/ والماء الذي يَرْشَحُ/ من حزن التماثيلِ/ وممّا تبقّى من غبارِ النيلِ/ في جفنِ المقطّمْ (...)/ غيمٌ أحمر الأزهارِ/ يَهمي/ كمراثي زينب فوق محرَّمْ (...)/ وترجيعٌ حليبيٌّ لماء الرغبةِ المفطومِ،/ أو/ قطعةُ ضوءٍ فوق ليلٍ يتهدَّمْ (...)/ هل نحن مرايا الصوتِ/ أم أصداؤه المرتجفهْ؟/ لم نَعُدْ من صوتها كي نَصِفَهْ!».
هذا الشعر شمسُ ظهيرةٍ تتذوّق مغيبها سَلَفاً. زمناها، بل أزمانها مصهورةٌ في لحظة شعريّة واحدة يستحمّ ليلُها في بحور الرغبة والذاكرة. تُشرق بيضاء وتشرق زرقاء. وهذا من طبيعة الشعر: أن يولد طفلاً كبيراً، ثم يَمضي مع العمر مُغلغلاً في طفولات يَكتشفها، أو تنبري هي هذه المرّة تكتشفه...

قبضة المتنبّي

أثار الشاعر عبده وازن في جريدة «الحياة» قضية المتنبّي من جديد، هذه المرّة بين شعراء العرب الحديثين، طارحاً عليهم لغز هذا الشاعر الباحث عن عرش خارج الشعر، المتلاطم كتناقضاته، المتورّم «الأنا» بلا حَرَج.
ملفّ ممتاز يستحقّ النشر في كتاب. على الهامش، يمكن تسجيل ملاحظة حول العلاقة بين الغضب والصدق عند المتنبّي. أكاذيب مدائحه ومراثيه لا تحتاج إلى كلام، وقد باتت جزءاً من ذاكرتنا. وقلّما نصدّقه حين يقول، حتّى عندما (كما في بعض مراثيه أو حين يخرج من المناسبة ليَسْبح في المجرَّد) يكون مُخْلصاً. عنصران يلتقيان حين يغضب ويجعلانه أقرب إلى الصدق ولو غالى: مرارة الخيبة، وجرْح الكبرياء. وهو في كليهما جبّار. ولا تضيره حقارة الدوافع، فنحن أمام تجربة شعريّة لا أمام ميزانيّة شركة. فلنأخذ هجاءه لكافور الإخشيدي: إنه هنا العاري بلا حياء.
بعض المشاركين في استفتاء عبده وازن شدّدوا على لا أخلاقية المتنبّي. أحدهم سمّاه «الشاعر الأجير». قَبْلنا بثلاثة أرباع القرن دُعي أحد كبار الأدباء العرب، وهو أمين الريحاني، إلى حلب لإلقاء محاضرة في ذكرى المتنبّي فنَهَشَه نهشاً مفصّلاً وكاد يجهز عليه لو لم يحفظ له «جميل» عروبته. دعُونا اليوم نضيف: و«جميل» عنصريّته. طبعاً العنصريّة ليست فضيلة، لكنّ الجهر بها على النحو الانعتاقي المجنون الذي فعله المتنبّي في «عيد بأيّةِ حالٍ عدتَ يا عيدُ» يرقى (أو ينحدر، لا فرق هنا) إلى مرتبة البطولة. لقد حرّر النبي العربي الرجل الأسْوَد حين خَلَع حمايته على بلال وجعله مؤذّنه، لذلك تسقط حجّة القول بشيوع كراهية العرب للسود في تلك الحقب. لقد جاءت رعود المتنبّي ضد لون كافور إعصار استهتار بالرأي الأخلاقي العام ومجاملات المساواة والاختلاط والخبث الاجتماعي. هذا الانفجار ذروة في اختراق الحدود. وحين نقرأه نبتسم لكنه يُثلج صدورنا. حقدٌ هادرٌ يحرّر قارئه حتّى لو كان هو نفسه رجلاً أسود. الصدق يُحرّر أيضاً ضحاياه.
مثل هذا الرأي ينطبق على أبي نوّاس وإن في الاتجاه المعاكس.
هناك مَثَلٌ فرنسيٌّ مُشابه هو بودلير. لم يكتب أحد بالعنصريّة الصافية التي كتب بها بودلير عن بلجيكا والبلجيكيين. يكاد الأدباء، وهم يبحثون في آثاره، يمرّون بهذا الكتاب على رؤوس أصابعهم لخجلهم به. أنا واحد من الذين يعتبرونه، رغم هزاله مقارنةً بمؤلفاته الأخرى، من أشدّ علامات أصالة بودلير وصدقه سطوعاً. لا يعود المرء هنا يعير أيّ أهميّة لمقاييس الحقّ والظلم والكياسة والفظاظة من فرطِ ما هجوم الشعور وهذيان الصراحة خلّابان.
الأخّاذ ليس التفنّن بل قول ما لا يُقال. المتنبّي قابلٌ لمعظم التعييرات الأخلاقية، وفَوقها جميعاً يحلّق شراعهُ الشعري تحليق نسرٍ مخيف. لو لم يكن هكذا لما كان لا يزال حديثنا اليوم. و«أناه» الهائلة هي الحلم المخبوء لكل إنسان لا لكل شاعر فحسب. وهي ثأره. وهي (وعكسها) جوابٌ من الأجوبة القليلة المتاحة على القَدَر. وقد عبّر عنه بما يُرجّف الجبال.
بين مداخلات الذين ردّوا في «الحياة» على أسئلة عبده وازن، أختارُ هذه الكلمات للشاعرة عناية جابر، الرهيفة، الصادقة، الضاحكة فوق شَجَنها ــــــ تقول: «أنا شخصيّاً تجذبني «أناه» المتضخّمة، يجذبني مرضه في هذه «الأنا» ويجذبني انحرافه. «أنا الذي نظر الأعمى...»، وحده الذي يقولها. فيما الباقون يُضمرونها (...) كلّ الشعر ملتبسٌ في كل الأحوال (...) نَغفر للأنا المتضخّمة عند المتنبّي فهي تليق به. إنها ذاكرته الثانية الممتدة بغموض إلى دلالات جديدة في كنْه الشعر وأصله. والمتنبّي تحديداً هو تلك التسوية بين «الأنا» والشعر. لقد كتبها من دون صبر أو دهاء، الأمر الذي يُضمره كل الشعراء...».
«من دون صبر». صحيح. أو بعد نفاد الصبر، لا فرق. كلام اللاعودة. إمساكٌ لشمسِ الأشياء وسَحْقُها بقبضة الكلمة...