طرابلس ــ غسان سعود
حنين إلى الماضي وخوف من المستقبل يتحكّمان بأهل «مدينة المسلمين»

يتسابق أهل الزاهرية عند سؤالهم عن منزل الأب إبراهيم سروج في إرشاد زائرهم للوصول إلى دارة «المحترم» الأرثوذكسي الذي يعيش في هذا الحي الطرابلسي منذ عدة عقود. حتى أصحاب اللحى الذين يرفعون الرايات الإسلامية فوق شرفات منازلهم، وعرباتهم المخصصة لبيع الكعك وعصير الليمون، يدعون سروج بالمحترم، ويسارعون إلى مدحه.
خلف فرن المير، في منزل متواضع تسند الكتب جدرانه، يتربع «ناظر مكتبة السائح» القابض على ست وستين سنة، يتفحص زائره بعيون ثاقبة تطل من خلف اللحية الأرثوذكسية الشهيرة. يعود إلى طفولته في حي البقّار في القبّة، حيث كان منزلهم يلاصق أحد الجوامع، وكان يلهو والأطفال في لعب «الكلة» قبالة الجامع دون أن يسأل أحدهم الآخر عن دينه. قبل أن يظهر بعض الطارئين على المنطقة، بحسب سروج الذين سوقوا الفكر السلفي، مدعومين بأموال النفط، وتوسعوا حتى بات لهم في كل شارع مدرسة لتعليم القرآن وعلومه، من دون رقابة الأجهزة الدينية المعنية. ويتكرر المشهد نفسه في عيني نقيب المحامين السابق فادي غنطوس اللتين تلمعان حسرة على مدينة كانت «علمانية» قبل بضعة عقود. وبحزن يقول إنه وأبناء جيله، يعيشون حنيناً إلى الماضي وخوفاً دائماً من المستقبل. «كانت هذه المدينة متدينة، محافظة، متمسكة بتقاليدها الخاصة، وترتبط بالداخل السوري»، يقول غنطوس، مؤكداً أن تدينها كان ينعكس طيبة وتسامحاً بين الناس، وتقبلاً للآخر، الأمر الذي حولها إلى مدينة ملونة، ذات أطياف سياسية وطائفية متنوعة، حتى لامست نسبة سكانها المسيحيين في بداية السبعينات قرابة الأربعين بالمئة، وخصوصاً مع انتقال أصحاب المصالح في زغرتا والكورة وعكار إليها، إلى جانب الإرساليات التعليمية، والبنية التحتية الاقتصادية المتينة (المصفاة، كهرباء قاديشا، شركة الترابة، المدينة الصناعية في البحصاص). التي أسهمت جميعها بتطور المدينة الإيجابي.
يغرق غنطوس في مقعده أكثر، يشعل السيجار، يتأمل الدخان المنبعث من فمه لينتشر في الغرفة. يؤكد بخيبة أن شارع عزمي كان مثل شارع الحمرا البيروتي، وأن أكثر من سبع صالات سينما كانت تزدحم بالمواطنين طوال ساعات العرض. وكان الحديث عن الاختلاط معيباً. لكن منذ منتصف الستينات بدأت تتضح معالم الحركات الإسلامية، وأولاها «الجماعة الإسلامية» التي اتبعت أسلوباً راقياً، وعظياً، تبشيرياً. وعمل هؤلاء مع الأطراف الإسلامية الأخرى بهدوء حتى عشية الحرب الأهلية، حين اندثرت الحركة السياسية الديموقراطية (وكان لحزبي الكتائب والوطنيين الأحرار مراكز في طرابلس). وعمدت الجماعة و«حركة الشهال» إلى إنشاء ميليشيات عسكرية بقيت محدودة الفاعلية. لاحقاً، يقول المحامي رشيد كركر، بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران وصعود المشروع الإسلامي، توحدت المجموعات الإسلامية وتبنت عدة حالات شمالية هذا البعد، كان أبرزها «أبو عربي» في التبانة. وتشكلت من هذه كلها «حركة التوحيد» بدعم مباشر من رئيس السلطة الفلسطينية الراحل ياسر عرفات. واستفادت الحركة من «كاريزما» إسلامية استثنائية تمتع بها قائد التوحيد سعيد شعبان. ولعب هؤلاء، بحسب كركر، على وتر استمالة الشارع السني العاطفي بطبيعته. هكذا تغير وجه المدينة. أقفلت ملاعب التنس والغولف ومعظم صالات السينما، اختفى زبائن المقاهي لأسباب مجهولة، امتنع معظم باعة المحال التجارية عن بيع الكحول خوفاً من استفزاز الإسلاميين. وتزامن كل هذا مع نزوح المسيحيين إلى خارج المدينة. تغيرت الحال، يقول الأب سروج، لم تعد منازل المسيحيين تعج بالمسلمين أيام أعيادهم والعكس، تراجعت علاقات الجيرة، ازداد عدد المتدينين الإسلاميين، وعمد البعض إلى تنمية التيارات السلفية. لكن هذه جميعها لا تعني وفقاً لسروج أن «طرابلس أمام حقبة توحيد جديدة»، أو أن إعلان طرابلس إمارة إسلامية، كما يأمل البعض، أمر محتمل في هذه المرحلة، رغم نزوح غالبية المسيحيين من هذه المدينة. ويلفت إلى انتقال أكثر من 300 عائلة من الزاهرية ومحيطها إلى بلدة ضهر العين، حيث بات للأرثوذكسيين رعية جديدة، وكنيسة. ويرى الأب أن التطرف الذي يجتاح المدينة يتعارض مع تاريخ الودِّ والانفتاح الذي يجمع أبناءها.
بدوره، يرى غنطوس ما يحصل اليوم أشبه بنمو البذور التي زرعتها التوحيد عام 1983، مستفيدة من الرعاية الخاصة التي أولاها البعض لها أخيراً. لكن الخوف بحسبه، أن هذه المجموعات سرعان ما تنقلب على رعاتها. وهي تسعى اليوم لإنعاش التقاليد «التوحيدية» مثل منع الخمر والاختلاط وتهجير المؤسسات التربوية المسيحية، وإبقاء أهل المدينة في جو ضاغط. وتستفيد هذه المجموعات وفق كركر من إفراغ تيار المستقبل للمنطقة من القيادات التاريخية التي تحسِّن التفاعل مع مجتمعها، وتراكم شعور سنة الشمال بالغبن، وحقد الذاكرة الإسلامية على السوريين، إضافة إلى ازدياد دائرة انتشار الفقر والبؤس.
وعبثاً يبحث غنطوس عن حل للمشكلة. يسأل كيف يمكن أن تبقى طرابلس، أكبر مدن المسلمين في لبنان، سنتين من دون مفتٍ. وينتهي بالقول إن مدينته تحتاج فوراً إلى وفاق سياسي، تنمية حقيقية، منع مصادر تمويل هذه المجموعات، ومراقبة المعاهد الشرعية التي لا يحتاج إنشاؤها إلى ترخيص وتخطى عددها ثلاثمئة معهد. أما «المحترم» فيفشل بتصور حال مدينته بعد بضعة عقود، ويردد سائلاً عن هوية مجموعة الأحياء القديمة هذه بعد بضع سنوات. سؤال يظل صداه يتردد في الأزقة التي لم تعرف يوماً فراغاً كالذي تشهده اليوم.
أمر واحد يجمع عليه أهل المدينة: «ليس كل أصحاب اللحى الموزعين بكثافة في هذه المدينة يتبنون الخيار السلفي الجهادي، لكن هؤلاء كلهم مشاريع «طرابلس ـــــ إمارة إسلامية» إذا لم تصغِ السلطة لهواجسهم باهتمام وتعالجها».