strong> راجانا حميّة
وحدها، عانت وهي تنظر إلى مشاهد الموت تقتحم بيوت «الشتات»، وترى أجساداً عارية ملقاة على الأرض، إلى جانب «رغيف الخبز» المضرّج بالدماء، بعدما عجزت «راية سيارة الأمم المتّحدة عن حمايتهم». زهرة مطر، ابنة مخيّم نهر البارد، والطالبة في جامعة بيروت العربيّة، عاشت زيارتها الشمالية الأسبوعيّة «تحت الأرض، وسط القصف»، وخرجت بعد ثلاثة أيّامٍ مجبرة، بعد طلبٍ من والديها على العودة إلى الجامعة. «تعثرت» بدموعها... والجثث، ومشت «على مرأى من القنّاصين»، تتلطّى بالجدران، إلى أن وصلت إلى محيط النهر، وقفت حيث باتت الخيارات أمامها ضئيلة «إمّا أن أقطع النهر، أو أعود إلى حارتي، وهذا ما لن أفعله، خوفاً من أن أخسر امتحاناتي». اجتازت زهرة النهر حافية القدمين، تحمل في يديها بعض الأوراق الناجية، وتوجّهت إلى مقرّ دراستها في بيروت، تاركة عائلتها «المشتّتة بين مخيمي البدّاوي والرشيدية». بعد ثلاثة أسابيع على «النكبة»، تعيش زهرة رهينة الضياع والخوف من الرسوب في امتحاناتها و«على أهلي في المخيّمات»، «بتطلّع على الكتب، شو بدّي أعمل، ناس هون وناس هنيك، عم بدرس بشكل مضاعف بس مش قادرة أركّز». إلاّ أنّها تدرك، في الوقت نفسه، أنّها «ما لازم أفكّر هذا التفكير، في محمود ويحيى وفتحي ونادين وياسمين... وكلهن ناطرين زهرة تنجح».
زهرة مطر، ليست الوحيدة التي تعيش الشتات، فهناك الكثيرون الذين اختبروا المعاناة نفسها، ولا يزالون متأرجحين بين «البارد» والجامعة، فعبد الله زعرورة كان أوّل من خرج من المخيّم «بعدما سقطت أوّل قذيفة ببيتنا، رحنا على بيت جدّي، كمان نزلت عليه قذيفة، هربنا بالشورتات والفانيلات، حتّى إخواتي طلعوا على البداوي من دون حفّايات وهويات، باستثناء هويّات إخواتي الصغار لأنّ أمّي كانت حاطتهم بظرف في خزانتها». وكان عبد الله قد قصد المخيّم، متأبّطاً كتبه للتحضير لامتحاناته، ليجلب المال من والده ليدفع قسط غرفته في بيروت، إلاّ أنّه خرج من المخيّم من دون كتبه التي بقيت تحت ركام المنزل ومن دون «المصاري»، سوى بضعة آلاف ليرة للعودة إلى بيروت. وفي طريق العودة، أُوقف عبد الله، كما العديد من أبناء المخيّم على الحواجز، للتدقيق في هويّاتهم «والفلسطيني من البارد، ينزّلوا على الأرض، وفي منهم يحطولهم كيس أسود على راسهم وياخذوهم على التحقيق، يمكن يرجعوا ويمكن لا». ولم ينفذ عبد الله ورفاقه من الحواجز أيضاً في بيروت، إذ يشير إلى أنّ «بعض الجهات نصبت حواجز خاصّة لتفتيش الفلسطينيين على جسر المدفون، لذلك لم نعد نستطيع المخاطرة بأنفسنا للاطمئنان إلى عائلاتنا». محمّد، الذي رفض ذكر اسم عائلته، لأنّه «فلسطيني بكل بساطة واحتمالات النيل منّي مطروحة بقوّة»، يخوض معركة نفسيّة قاسية بين استكمال دراسته ومصير أخته التي خسرت كتبها خلال القصف «ولن تتمكّن من تقديم امتحاناتها في كلّية الآداب ـــــ الفرع الثالث في الجامعة اللبنانيّة، لأنّها لا تملك المال لإعادة تصوير المقررات»، ووالده وشقيقه اللذين فضّلا البقاء في المخيّم «على التشرّد مرّة أخرى». يدرس محمّد، اليوم، 7 ساعات بدلاً من أربع ساعات، بعدما أعاد تصوير كتبه من مصروفه الذي ادّخره «لليوم الأسود» ومن رفاقه الذين أسعفوه في بعضها، إلاّ أنّه يشكو من فقدان شهيّته على الدرس والتركيز في ظلّ هذه الأوضاع. أمّا عبد الله، فقد واجه مصاعب كثيرة في لملمة أوراقه، إذ إنّ رفاقه كانوا يرفضون إعارتي كتبهم «شو دخّلنا فيكم، أنتم الحق عليكم، بتدخلوهم على المخيّم وبترجعوا بتتشرّدوا»، أو «كانوا يمنّنوني، يلّا بسرعة عندي مشوار». وإزاء هذه الأوضاع، فضّل عبد الله تصوير الكتب المتوافرة مع رفيقاته الفلسطينيات، غير أنّه لم يُوفّق في المادّة الأولى التي قدّمها أوّل من أمس، ويقول إنه أجرى الامتحان «بس بحملها للمادّة معي للدورة الثانية». إلاّ أنّ الطلّاب لا يحبّذون فكرة بقائهم إلى الدورة الثانية التي تحرمهم إمكان الاستفادة من صندوق الطالب الفلسطيني، وخصوصاً أنّ 60% من الطلّاب لم يعتمدوا عليه ولم يدفعوا أقساطهم بعد. ولفت ربيع أحمد إلى «أنّ رئيس الجامعة الدكتور عمرو العدوي لم يجبرنا على إجراء الامتحانات، وأشار إلى أنّه إذا لم نكن واثقين من استعداداتنا، فبإمكاننا تأجيله إلى وقتٍ لاحق»، كما أكّد حرصه على مصلحة الطلّاب الفلسطينيين، موضحاً أنّه سيراعي الأوضاع «إلى حدّ التساهل في التصحيح». ولم تقتصر «النكبة» عند حدود الامتحانات والضياع، إذ يواجه معظم الطلّاب الفلسطينيين في بيروت خطر «التهجير الثاني»، فبعد ثلاثة أسابيع من «الحرب»، لم يعد لدى معظم الطلاب ما يكفيهم لسدّ حاجاتهم الضروريّة «فكيف لنا أن ندفع أقساط غرفنا»، ويشير أحمد إلى أنّ «بعض الشباب تركوا غرفهم، ووزّعوا أنفسهم على الرفاق الذين يعرفونهم من المخيّم». وكان 18 طالباً فلسطينياً قد شكّلوا لجنة وذهبوا إلى منظّمة التحرير لمطالبتها بإسعاف الطلّاب، فبادرت إلى إعطاء 110 من طلّاب البارد فقط 100 دولار لكل واحد. ولم يصمد المبلغ سوى بضعة أيّامٍ فتوزّعت بين 80 $ لقسط الغرفة و20 $ للمصروف ما بين تصوير أوراق وأكل.




...التعليم الذي بات ترفاً

يواجه 114 طالباً فلسطينياً في جامعة بيروت العربية (70 من الذكور و44 من الإناث) من سكّان مخيّم نهر البارد مصيراً لا هويّة له. فبين امتحاناتهم التي باتت قريبة وتهجير عائلاتهم من المخيّم، تجتاحهم مشاعر الخوف من عيش نكبّة جديدة قد تكون شبيهة بالنكبة الأمّ في عام 1948. «فالأرض ليست لنا والناس فقدت عقلها، وإذا وجدنا من يؤوينا اليوم، فماذا نفعل في حال استمرار الاقتتال؟». يعاني الطلاب الـ 114، إضافة إلى حوالى 130 آخرين يتابعون دراستهم في جامعات بيروت، و200 موزّعين بين لبنانيين وفلسطينيين في جامعات الشمال، مشاكل نفسيّة وماديّة ولامبالاة من الجهات الرسميّة، إن كانت الأونروا أو المنظّمات الإنسانيّة والجمعيّات الأهلية. غير أنّ الأمر لا يقف عند هذا العدد، إذ بقي في مخيّم نهر البارد حوالى 15 طالباً من جامعة بيروت العربية، بسبب سوء أوضاع عائلاتهم الاقتصاديّة، وأعداد أخرى متواجدة في البدّاوي ولا تستطيع التنقّل لعدم توفر أوراق ثبوتيّة في حوزتها. وقد أعدّت المؤسّسة الفلسطينيّة لحقوق الإنسان «شاهد» تقريراً للظروف الصعبة التي تواجه طلّاب «البارد»، والتي أدت حركة النزوح الهائلة من مخيم البارد إلى مخيّم البدّاوي دوراً أساسيّاً في ضياعهم، فالظروف الإنسانيّة الناتجة من «التخمة» السكّانية في البدّاوي، وتهجيرهم الإضافي من فلسطين ومن ثمّ من مخيّم الشتات، ضاعف النكبة. وما زاد الطين بلّة أنّ الطلّاب لم يستطيعوا إنقاذ كتبهم وكراساتهم من منازلهم المدمّرة، ما دفع البعض إلى ترك امتحاناتهم لعدم قدرتهم على شراء البديل. كما أنّ انسداد الأفق أمام الحلول السياسيّة واقتصارها على الحلول العسكريّة، ولّد لديهم قناعة بأنّ متابعة التحصيل الجامعي بات نوعاً من أنواع الترف أمام حجم الآثار السلبية والنزوح. وكانت بعض الأطر الطلّابية، منها الرابطة الإسلامية لطلبة فلسطين واتّحاد الشباب الديموقراطي الفلسطيني والمكتب الطلّابي الحركي ورابطة بيت المقدس قد رفعت مذكّرة إلى الأونروا التي لم تتجاوب حتى الآن مع هذه المطالب، كما أنّها لم ترسل ردّاً على المذكّرة منذ تاريخ تقديمها. واللافت أنّ الأونروا أيضاً خفضت عدد المنح هذا العام إلى 24 منحة، وحصرتها بالطالبات الفلسطينيات فقط، مستثنيةً الطلّاب.