جان عزيز
ما هو سرّ التحفّظات التي يبديها بعض أركان فريق السلطة حيال المبادرة الفرنسية؟ وما هو التفسير الممكن للتناقض بين مواقف هؤلاء المستجدة، وبين مدائحهم طيلة الأشهر الماضية للسياسة الفرنسية حيال لبنان، في ظل تحوّل باريس في العامين المنصرمين، مربط خيلهم؟
المعلومات الموثوق بها عن الموضوع، تشير إلى أن ثمة «نقزة» في أوساط فريق 14 آذار من سرعة التغيير في المناخ الفرنسي بعد رحيل جاك شيراك. ذلك أن أركان الأكثرية كانوا يتوقّعون أداءً ما متمايزاً بعض الشيء للإدارة الفرنسية الجديدة. غير أن تطمينات جمّة نُقلت إليهم من باريس، وخصوصاً من بيروت، عن استمرار السياسة الشيراكية نفسها في الخطوط العامة والمفاصل الأساسية.
إلاّ أن وصول برنار كوشنير إلى الكي دورسيه مثّل مؤشراً أول للحذر. وهو ما لبث أن تأكد في حفل فطور قصر الصنوبر قبل أسبوعين، حين فاجأ كوشنير ضيوفه، بفكرة اللقاء اللبناني الموسّع في قصر «دوردون» التابع لوزارة الخارجية الفرنسية. لم تكن الفكرة قد نوقشت بين أي من مسؤولي باريس وفريق الأكثرية في بيروت. وهو ما انعكس سلسلة اتصالات انهالت على الممثلية الفرنسية في لبنان، للاستيضاح والاستفهام ومحاولة فهم الأبعاد والخلفيات، وخصوصاً لجهة احتمال أن تكون الخطوة منسّقة مع واشنطن
والرياض.
غير أن «الريبة الآذارية» راحت تتكثّف، نتيجة عدم التمكّن من الحصول على معلومات فرنسية واضحة، وخصوصاً بعدما تعذّر على شخصيات لبنانية شبه مقيمة في قصر الإليزيه طيلة العهد الشيراكي وأعوامه الاثني عشر، الحصول على مواعيد رئاسية لسبر الموضوع.
عند هذا الحد بدأت ردود الفعل الأكثرية تبدي تحفّظها حيال الخطوة الفرنسية، فراوحت بين استغراب مكان الاجتماع المقترح، وبين الإعراب عن عدم المعرفة بالمبادرة في حد ذاتها. إلاّ أن مسلسل المفاجآت توالى، فجاءت تصريحات وزير الخارجية الإيطالية ماسيمو داليما بعد زيارتيه إلى دمشق وبيروت، لتعزيز الشك الآذاري. وهو ما اقتضى هجوماً جنبلاطياً على كلام روما، على طريقة إسماع
الجارة.
في هذا الوقت يتبيّن أن الخطوات الفرنسية متقدمة أوروبياً وأميركياً وفاتيكانياً وعربياً. وهو ما استدعى الاستنفار الآذاري للمواجهة. إلاّ أن أجواء الأكثرية البيروتية ظلّت مرتاحة إلى خط دفاع رئيسي بالنسبة إليها، يمثّله السفير الفرنسي في لبنان برنار إيمييه.
وفي هذا السياق، تؤكد المعلومات نفسها أن إيمييه كان أول مَن استشعر التغيير الحاصل في إدارته، ونقل إليها رغبته في ترك بيروت. غير أن اعتبارات فرنسية متعلّقة برفض باريس أن يتقدّم سفير جديد لها بأوراق اعتماده إلى الرئيس إميل لحود، هو ما جعل المسألة مؤجّلة. وبالتالي اطمأن الآذاريون إلى استمرار إيمييه في الإشراف على أي مبادرة فرنسية حيال الوضع اللبناني.
غير أن تطورين جديدين طرآ في الساعات الماضية زادا من المخاوف الآذارية وأعادا لهجة الحذر الشديد.
التطور الأول كان حسم الإدارة الفرنسية الجديدة قرارها نقل إيمييه إلى أنقرة، اعتباراً من تموز المقبل. وتعيين السفير الفرنسي في السنغال أندريه باران «سفيراً» جديداً مكانه في بيروت، على أن يحلّ الآن برتبة قائم بالأعمال، ما يجنّبه تقديم أوراق الاعتماد، ليُرفّع لاحقاً إلى رتبة سفير. وباران الخبير في شؤون المنطقة، متزوج باللبنانية الأصل، مايا سبليني.
أمّا التطور الثاني، فكان تكليف جان كلود كوسران ملف المبادرة الفرنسية حيال لبنان، بدلاً من إيمييه نفسه. وكوسران يعبّر عن اتجاهات كوشنير اللبنانية، كما يمثّل تراكماً كبيراً من الدلالات الفرنسية الداخلية. فهو كدبلوماسي فرنسي، ينتمي في جذوره إلى الحقبة الميترانية. وكمتعاطٍ في الشأن الشرق أوسطي، يعدّ من رموز الانفتاح الباريسي على دمشق، التي حلّ فيها سفيراً بعد وصول شيراك إلى الرئاسة، في ذروة الغزل السوري ــــــ الشيراكي ــــــ الحريري. والأهم أنه من «ضحايا» الأداء الشيراكي في الشرق الأوسط، بعدما أُبعد من منصبه في رئاسة المخابرات الخارجية، وهي الخطوة التي قيل إن شيراك أقدم عليها بعد عام 2002، تمهيداً لاصطفافه لاحقاً خلف سياسة واشنطن.
هكذا في خلال أيّام تبدّلت صورة فرنسا لدى فريق 14 آذار، قبل أن يتبدّل مضمون سياسة باريس تجاه لبنان ومحيطه. وتكوّن لدى الأكثرية البيروتية انطباع بانقلاب ما، على خلفية رحيل مَن كان يعدّ بالنسبة إليها، أكثر من سفير، وبمثابة «منسّق الأنشطة الشيراكية» بين الإليزيه وقريطم.
هل صحيح هذا الانطباع؟ تشير المعلومات نفسها إلى أن الآذاريين بالغوا في حذرهم وتحفّظهم. فالمسألة بالنسبة إلى العالم الغربي، مسألة حسابات وواقعية لا غير. ولا يمكن قياسها بكون كوسران أول مسؤول فرنسي يزور بيروت بعد 14 شباط 2005، ولا يبدأ محطاته اللبنانية بزيارة الضريح. أمّا الآتي فمحكوم بموازين الأحجام الفعلية، والثوابت اللبنانية غير القابلة للبيع
والشراء.