نقولا ناصيف
لم يقل أحد من الذين اجتمع بهم الموفد الفرنسي السفير والرئيس السابق للإدارة العامة للأمن الخارجي جان كلود كوسران، في اليومين المنصرمين، إنه غير معنيّ بالدعوة الفرنسية إلى طاولة الحوار التي تبدأ أعمالها في 29 من هذا الشهر في باريس، أو يقاربها بلامبالاة، أو على الأقل إنه ضد حوار لبناني ــــــ لبناني برعاية فرنسية. إلا أن أياً منهم لم يتصوّر، في المقابل، أن يكون في وسع المبادرة الفرنسية اجتراح ما أخفقت فيه باقي المبادرات المحلية والعربية والإقليمية في الأشهر الأخيرة، وبعضها لا يزال يستنزف نفسه. والملاحظات الإيجابية التي يبرزها رئيس المجلس على المبادرة الفرنسية ليست كذلك بالنسبة إلى الحوار الداخلي الموصد الأبواب. يقول إن «الأجواء مكفهرة تماماً. لا يريدون حواراً ولا حكومة جديدة. لا يريدون إلا الاستئثار بالسلطة. يقدّمون العروض ويتراجعون عنها. لنصلّ من أجل أن يعودوا إلى الحوار، ومن أجل أن يتفقوا على موقف واحد من الحوار والمبادرة الفرنسية. بينهم مَن لا يريد المبادرة الفرنسية، ومَن لا علم له بها، ومَن يؤيدها. وهناك كذلك مَن يريد الحوار وحكومة الوحدة الوطنية، ومَن لا يريدهما، ومَن لا يعرف ماذا يريد منهما».
ببساطة اهتمّ الموفد الفرنسي الذي يجمع في مهمته تحفّظ الدبلوماسية وكتمان الاستخبارات، الطويل الباع في شؤون لبنان وسوريا وإيران، بتوجيه الدعوة إلى المسؤولين والقادة اللبنانيين باسم وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير، من غير الإسهاب في أهدافها والنتائج المتوخاة منها. وعرض لهم الآتي:
ــــــ تلتئم طاولة الحوار بعد ظهر 29 حزيران وتستمر يومين ونصف يوم، حتى الأول من تموز في قصر سان كلو.
ـــ يشارك فيها ممثلون عن الأعضاء الـ14 الذين اجتمعوا حول طاولتي الحوار الوطني (2 آذار 2006) والتشاور (11 تشرين الثاني 2006). لكن رئيس المجلس لفته إلى أن عدد المشاركين هو 15 نظراً إلى وجود ممثلين للأرمن يتناوبان على الجلوس إلى الطاولة. أما ممثلو المجتمع المدني، تبعاً للاقتراح الفرنسي، فسيكونون ما بين 10 إلى 12 مشاركاً.
ــــــ جدول الأعمال المطروح بند وحيد، هو سبل حماية النظام اللبناني واستقراره ومناقشة وضعه الداخلي.
ــــــ لن يكون الممثلون الـ15 في حاجة إلى تفويض من زعماء الكتل التي يمثلونها، لأنهم غير مدعوين إلى اتخاذ قرارات حاسمة وحساسة. بذلك فإن المقصود من الجلوس إلى طاولة الحوار، إعادة وصل ما انقطع بين الأفرقاء اللبنانيين منذ تشرين الثاني 2006 عندما التقوا للمرة الأخيرة حول طاولة التشاور.
وعلى أهمية المبادرة الفرنسية والعجلة التي طبعتها، سجّل رئيس المجلس بضعة انطباعات من لقائه الدبلوماسي الفرنسي الذي أثار اهتمام بري نظراً إلى خبرته وسعة اطلاعه والدور المنوط به:
أول الانطباعات، أن فرنسا رغبت في دعوتها الأفرقاء اللبنانيين إلى الحوار كي تميّز نفسها بنفسها. والمقصود بذلك توجيه دبلوماسيتها في منحى لا يتناقض بالضرورة مع تلك التي سادت عهد الرئيس السابق جاك شيراك، بل الانفتاح على الأطراف اللبنانيين جميعاً، في الغالبية والمعارضة على السواء، على قدم المساواة. وهو ما أبرز الحاجة إليه بري في أثناء لقائه كوشنير في عين التينة في 24 أيار الماضي، إذ سأله الوزير الفرنسي عن نظرته إلى ما يقتضي أن تكون عليه السياسة الفرنسية الجديدة حيال لبنان، فأجابه بري: أن تعود إلى ما كانت عليه في عهد شيراك في المرحلة الأولى من حكمه، وهو النظر إلى اللبنانيين جميعاً بلا مفاضلة ولا انحياز. ولا ينسى بري لشيراك أنه بنى مدرسة في الجنوب في خطوة عبّرت، مع سواها، عن أهمية الانفتاح الفرنسي والعلاقات التقليدية التي جمعت فرنسا بكل الأفرقاء اللبنانيين حينذاك. وفي واقع الحال لمّح بري ضمناً إلى ضرورة تخلّي الإدارة الفرنسية عن السلوك الذي رسم ملامح العلاقات الفرنسية ــــــ اللبنانية في المرحلة الأخيرة، وخصوصاً بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري نظراً إلى العلاقات الشخصية الوطيدة التي جمعت بين الرجلين، وأدى إلى تأثر علاقات باريس بأفرقاء رئيسيين في هذا البلد.
ثانيها، خلافاً لما يطبع تقليدياً علاقات الرؤساء الأسلاف والخلفاء في العالم العربي إذ يشهّر بعضهم بالآخر، فإن الرئيس نيكولا ساركوزي أجرى استدارة هادئة وبطيئة، بلا صخب ولا ضجيج، ومن دون التنكّر للثوابت الفرنسية، التقليدية، حيال لبنان، وأراد أن يسلك أسلوباً مختلفاً في التعامل مع الملف اللبناني، اقترن بديناميته، الأمر الذي اتسمت به مبادرة كوشنير عندما تولدت الفكرة في بيروت، وما لبث أن أطلقها بعد أيام قليلة، وأوفد خلال ساعات أحد أبرز الدبلوماسيين الفرنسيين لوضعها موضع التنفيذ.
والواضح بالنسبة إلى بري أن المبادرة الفرنسية لا تريد أن تقدّم أكثر مما تطمح إليه، وهو إعادة الحوار بين الأفرقاء اللبنانيين. والحري ــــــ يقول رئيس المجلس ــــــ أن مكان الاجتماع والبند الوحيد في جدول الأعمال المطروح للمناقشة لا يمثلان أي دافع لتعطيل الحوار اللبناني ــــــ اللبناني، بل قد يكونان فاتحة حوار في لبنان على أبواب الاستحقاق الرئاسي لتضييق شقة الخلاف الداخلي. ويبدو رئيس المجلس واثقاً من أن اجتماع باريس لن يفشل لأنه لا مبرّر للخلاف على ما يجمع عليه اللبنانيون، وهو إنقاذ نظامهم السياسي من الانهيار انطلاقاً من القاعدة الرئيسية التي يتلاقون عليها وهي اتفاق الطائف.
ثالثها، الملاحظة التي رافقت زيارة كوسران لبيروت، وهي أنه لم يلتقِ رئيس الجمهورية، آخذاً بالموقف نفسه الذي كان قد اتخذه الرئيس الفرنسي السابق مذ صدر القرار 1559 في 2 أيلول 2004، بمقاطعة الرئيس إميل لحود طعناً في شرعية تمديد سوريا ولايته. ومذذاك ليس ثمة اتصال بين لحود والدبلوماسية الفرنسية.
إلا أن التبرير الرئيسي لإحجام الموفد الفرنسي عن زيارة قصر بعبدا، بالإضافة إلى تأكيد تمسّك باريس بالقرار 1559 ومفاعيله السياسية ــــــ هو أن كوسران لم يأت كي يكسر مع مَن تتحدّث معهم فرنسا أو يقتضي أن تتحاور وإياهم، ولا ليكسر مع مَن كانت باريس لا تتحدّث إليهم. أضف معرفة الدبلوماسي الفرنسي أن اجتماعاً بالرئيس اللبناني ربما استفزّ قوى 14 آذار وأغضبها. الأمر الذي لا يدخل في نطاق مهمته، إن لم يؤثر في جدوى هذه المهمة وأهدافها: لا الخلاف مع فريق الغالبية، ولا إنهاء الخلاف مع لحود.